من المعروف ما وصلت إليه المعارك والحلول العسكرية في سوريا، بداياتها وظروفها ومسارها وواقعها الراهن، وكذلك تعثّر الحل السياسي - حتى الآن على الأقل - نتيجة تعنّت النظام واختياره منذ اليوم الأول للثورة للحل العسكري سبيلًا لقهر الشعب والقضاء على الحراك الشعبي السلمي.
ومع هذا، ما زال السوريون مصرّون على الاستمرار في نضالهم السياسي حتى الوصول إلى التنفيذ الصارم للقرار 2254، ومقتنعون بحتمية التغيير السياسي الذي سيحمل في طياته العدالة والمحاسبة للنظام الذي انتهك القيم الإنسانية بجرائمه غير المحدودة.
في ظل هذا الواقع، لابد من التأكيد على أن المعركة القانونية هي السبيل الأهم لمواصلة النضال للحصول على الحرية والعدالة للشعب السوري، وقد أدرك السوريون ذلك مبكّراً، فعلى مدار السنوات الماضية تم تحريك الملف القانوني والحقوقي، فمنذ الأيام الأولى للحراك كان التوثيق حاضراً، وانطلق ابتداءً بشكله الإعلامي، وبعد فترة قصيرة أخذ التوثيق الميداني شكله الحقوقي مستوفياً الشروط المطلوبة لجعله صالحاً للاستخدام القضائي، وصار لدى العديد من منظمات المجتمع المدني المعنية ملايين الأدلة على الجرائم التي ارتكبها النظام، وأغلب هذه الأدلة موثقة بشكل مهني وقانوني، إضافةً إلى وجود آلاف الشهود على هذه الجرائم ما زالوا أحياء وغالبيتهم قادرون على تقديم الشهادة القانونية المطلوبة.
النظام السوري الذي ارتكب الآلاف بل عشرات الآلاف من الجرائم، أعطى للعاملين في الشأن الحقوقي ذخيرة كافية للعمل، وثائق كثيرة جداً للاستفادة منها في لجان التحقيق الدولية، مروراً بتحريك بعض الدعاوى بحق عناصر النظام في بعض الدول الأوربية التي يسمح نظامها القضائي بما يُعرف بالولاية القضائية الدولية، الأمر الذي حقق به المدافعون عن حقوق الإنسان خروقات مهمة على طريق المحاسبة والمساءلة للنظام وحلفائه.
هناك عشرات آلاف الانتهاكات والجرائم الموثقة من قبل المؤسسات الدولية والسورية، وهناك تقارير تحقيق من لجان دولية، ويحتاج السوريون إلى جهةٍ قضائية مختصة للادعاء ومحاكمة أركان النظام السوري المسؤولين عن هذه الانتهاكات.
وبالطبع، لا ننسى هنا أيضاً الانتهاكات والجرائم المرتكبة من قبل تنظيم "داعش" وتنظيم "حزب العمال الكردستاني" وتفرعاته، والتي يجب أن تمتد العدالة لمحاسبة كافة المجرمين مهما كان انتمائهم.
بالانتقال إلى لجان التحقيق الدولية المعنية بالشأن السوري، فهي عديدة وازدادت على مر السنوات الماضية، ولكن لعل أهمها كما نعتقد:
1- لجنة التحقيق المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان في آب عام 2011.
2- الآلية الدولية المحايدة المستقلة التي أنشأتها الجمعية العامة عام 2016 للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للأشخاص المسؤولين عن الجرائم الأشد خطورة المرتكبة في سوريا.
3- الآلية المشتركة بين مجلس الأمن ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية للتحقيق في استخدام الكيماوي في سوريا.
4- المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا، وهي أحدث الهيئات المعنية بالقضية القانونية في سوريا.
وهناك لجان أخرى للتحقيق وتقصي الحقائق توالت خلال العقد الأول من عمر الثورة السورية. وطبعاً، لا ننسى أهمية عمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، والمفوضية السامية للاجئين، ومنظمة العفو الدولية، ومنظمة الهجرة الدولية، وغيرها من المنظمات المعنية بحقوق الإنسان.
ناهيك عن كل ما سبق، أصبح من المعلوم أن لجنة تقصي الحقائق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية أنهت أعمالها بشأن أربع هجمات جرت في سوريا استُخدم فيها السلاح الكيماوي، وخلصت اللجنة إلى تحميل النظام السوري مسؤولية ثلاث هجمات، والهجوم الرابع اعتُبر تنظيم "داعش" مسؤولاً عنه، وما تزال اللجنة تعمل لتحديد المسؤول عن عشرات الهجمات الكيماوية الأخرى التي حدثت في سوريا في السنوات الماضية.
إذاً، هناك عشرات آلاف الانتهاكات والجرائم الموثقة من قبل المؤسسات الدولية والسورية، وهناك تقارير تحقيق من لجان دولية، ويحتاج السوريون إلى جهةٍ قضائية مختصة للادعاء ومحاكمة أركان النظام السوري المسؤولين عن هذه الانتهاكات، وهنا يأخذنا الحديث إلى ثلاثة مستويات من القضاء:
المستوى الأول: القضاء الدولي، ممثلًا بمحكمة الجنايات الدولية، والتي لا يمتلك المدعي العام فيها اختصاصاً مباشراً للتحقيق في الانتهاكات في سوريا، لأن الدولة السورية ليست مُوقّعة ولا مُصادقة على نظام روما الأساسي (الشرط اللازم لعضوية اتفاقية إنشاء المحكمة). وبالتالي، يحتاج الأمر إلى إحالة ملف الانتهاكات في سوريا إلى قرار من مجلس الأمن الدولي موجّه إلى المدعي العام في محكمة الجنايات الدولية. وقد جرت محاولات لفعل ذلك في السنوات الماضية، لكن "الفيتو" الروسي - الصيني المزدوج أجهض المحاولة، وللأسف مازالت كافة الاعتبارات السياسية داخل مجلس الأمن متشابهة تقريباً إن لم تصبح أصعب وأعقد.
من أهم عيوب المحاكم الخاصة أنها تحتاج إلى تمويل كبير، وتأمين الأموال والميزانية لهذه المحكمة سيكون تحدياً كبيراً بالإضافة إلى التحديات الأخرى.
هناك طرح قديم – جديد، يدعو إلى إنشاء محكمة دولية خاصة بالجرائم المرتكبة في سوريا. إلا أن هذا الطرح يواجه العائق نفسه الخاص بالإحالة إلى المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، وهو الحاجة إلى قرار من مجلس الأمن بإنشاء المحكمة الخاصة، وهذا الأمر مُتعذّر بسبب "الفيتو" كما ذكرنا. وهناك من يطرح أن تُشكّل محكمة خاصة خارج نطاق مجلس الأمن وبموجب
اتفاقية بين الدول الموافقة على إنشائها، إلا أن لهذا الطرح سلبيات كثيرة، وعلى رأسها أنه سيُشكك في شرعية هذه المحكمة وشرعية قراراتها، ولن تتقيد بأحكامها إلا الدول الموقعة على اتفاقية إنشائها. وبشكل عام، فإن تجربتنا في المنطقة مع المحاكم الخاصة ليست مشجعة، فها هي المحكمة الخاصة بمحاكمة قتلة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري - وهي آخر أو أحدث المحاكم الخاصة - لم تستطع محاكمة إلا أربعة أشخاص، وغيابياً أيضاً، لأن ميليشيا حزب الله لم توافق على تسليم المجرمين الذين ينتمون لهذه الميليشيا، والذين قُتل أو صُفي جلّهم في سوريا، ومن أهم عيوب المحاكم الخاصة أنها تحتاج إلى تمويل كبير، وتأمين الأموال والميزانية لهذه المحكمة سيكون تحدياً كبيراً بالإضافة إلى التحديات الأخرى.
المستوى الثاني: القضاء الوطني السوري، وهذا المستوى هو الأفضل من حيث إمكانية محاسبة عدد كبير من المجرمين والمتهمين، كما أن له ميزة أخرى وهي عدم الحاجة إلى مبالغ وميزانيات كبيرة لهذا الخيار من المحاسبة والمساءلة، أما أهم السلبيات فهي أولاً الحاجة إلى الوصول إلى حل سياسي في سوريا عبر التنفيذ الصارم للقرار 2254 والقرار 2118 وتحقيق الانتقال السياسي الديمقراطي، لأن بقاء النظام يعني استحالة إنشاء مسار المحاسبة والمساءلة، والسلبية الثانية هي نقص الخبرات القضائية اللازمة في قضايا ذات بُعد جنائي دولي والجرائم ضد الإنسانية، وبالتالي نحتاج إلى تدريب كوادر قضائية تتولى هذه القضايا في المستقبل، ومن هنا تأتي أهمية إقرار مسار العدالة الانتقالية في دستور سوريا الجديد.
يطرح البعض أن تستعين المحاكم الوطنية بقضاة أو مستشارين قانونيين دوليين (أجانب) لتطعيم المحاكم الوطنية، لتصبح هجينة بين الوطني والأجنبي، وطبعاً لا نتفق مع هذا الطرح، لأن القضاء يجب أن يكون وطنياً ومستقلاً وغير خاضع لأي تدخلات خارجية، ولكن ذلك لا يمنع الاستفادة من الخبرات الأجنبية في مجال تدريب الكوادر الوطنية لتدارك نقص الخبرات الموجود لدينا في مثل هذه القضايا.
المستوى الثالث: وهو ما يجري حالياً من قيام بعض المناضلين الحقوقيين باللجوء إلى محاكم بعض الدول الأوربية التي يسمح قانونها الوطني بالصلاحية الدولية، ليتم من خلالها محاكمة بعض المسؤولين في النظام السوري الذين أُدينوا بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
إن المعركة القانونية في مواجهة النظام السوري تحتاج إلى تحالف حقوقي يُنسّق ويجمع جهود الجميع، من المؤسسات السياسية إلى المجتمع المدني والمجتمع المحلي وعوائل الضحايا ومجالس المغتربين وآخرين، ويمكن أن يُحقق هذا التحالف نتائج أهم وأكثر قيمة من الجهود المتفرقة لكل طرف.
قد يُفهم الاختلاف في ميدان السياسة والخيارات السياسية للمعارضين السوريين، ومن الطبيعي أحياناً أن تكون هناك خلافات من هذا النوع، لكن لا مكان للخلاف في قضايا العدالة والحقوق، بل ويمكن للعدالة أن تُشجّع على التفاهم والتعاون بين الجميع.
إن السلام هو نقيض الحرب بالمعنى الضيق، أما نقيض الحرب الحقيقي فهو العدالة، فلا سلام مستدام من دون عدالة.