ضمن مساعي إيران المستمرة للهيمنة على مختلف القطاعات والمؤسسات التابعة للنظام السوري، وبعد سيطرتها العسكرية والأمنية شبه الكاملة، وقَّعت محافظة دمشق وبلدية طهران، بتاريخ 6 أيلول/سبتمبر الجاري، اتفاقاً سُمّي "توءمة طهران ودمشق"، لتعزيز وتعميق التعاون وتبادل الخبرات ليشمل مختلف المجالات الخدمية والاقتصادية والاجتماعية والسياحية.
وبحسب صحيفة "الوطن" المقرّبة من النظام السوري، جرى الاتفاق خلال فعاليات زيارة رئيس بلدية طهران علي رضا زكاني مع وفد مرافق إلى دمشق التي وصلها، يوم الأربعاء (5 أيلول/سبتمبر)، تلبية لدعوة محافظها محمد طارق كريشاتي.
وقالت الصحيفة إنّ اتفاقات "التوءمة" ستشمّل النقل ومعالجة النفايات الصلبة والأتمتة والإلكترونيات، إضافة إلى السياحة الدينية والعلاجية، مع اتخاذ مختلف الخطوات للمساهمة في إعادة الإعمار.
ورغم أن عملية إبرام الاتفاقيات الاقتصادية ومذكرات التفاهم بين إيران وحكومة النظام السوري لم تتوقّف على مدى السنوات الماضية، فإن أكثر مشاريع هذه "التوءمة" غرابة كان توقيع اتفاقية إنشاء "مترو دمشق"، تحت ذريعة حلّ "مشكلات النقل المستعصية" في البلاد منذ نصف قرن.
وهي خطوة يراها كثير من المراقبين للتمدد الإيراني في سوريا، قد تفضي إلى دمار شامل لتاريخ المدينة وإرثها وما تبقّى من عمارها وخصوصيتها.
"دراسات سابقة عن المشروع"
ترجع البدايات الأولى لظهور المشروع كدراسة جدية، سنة 1982، من خلال مذكرة تفاهم بين الجانبين السوري والسوفييتي، وتنص المذكرة على إعداد دراسة حول الجدوى الاقتصادية والقدرة التمويلية، إلا أن هذه الدراسة لم يُكتب لها الاستمرار في التنفيذ ولم تُترجم على أرض الواقع وظلت حبراً على ورق؟!
أمّا الدراسة الفرنسية التي أشرفت عليها كريستين لاغارد، وزيرة المالية الفرنسية عام 2010، وتوقّفت عند الخط الأخضر بطول 16 كيلومتراً فقط، بقيمة 250 مليون يورو.
وأعلن بنك الاستثمار الأوروبي وقتها مساهمته في تمويل هذا المشروع بمبلغ 300 مليون يورو، إلا أنها توقّفت بدورها عند البنية الجيولوجية لتربة دمشق، فهي تربة، كما وصفتها الدراسة "رخوة ورطبة ومليئة بالكهوف الهوائية"، مما يشكّل تهديداً كبيراً لعمار المدينة حديثه وقديمه.
ولكن حكومة النظام السوري رفضت وقتها هذا المشروع مبرّرة ذلك بارتفاع التكاليف التي حدّدتها الشركة الفرنسية "سيسترا "، والتي بلغت حينذاك "70 مليون يورو للكيلو متر الواحد".
من جهته يوضّح أحد خبراء التطوير الحضري في مناطق سيطرة النظام لـ موقع تلفزيون سوريا، أنّ موضوع التربة يعقد دراسات المشروع الهندسية بعض الشيء ويزيد من كلفته، لكنه لا يجعل تنفيذه مستحيلاً.
وأضاف الخبير (م.ج)، الذي عايش تلك الفترة، أن السبب الحقيقي لإيقاف المشروع وقتها كان بسبب رامي مخلوف، الذي عمل خلال إدارته شركة "شام" القابضة، على وضع عقبات أمام جميع الشركات الأجنبية التي أرادت الاستثمار في هذا المشروع.
لماذا تسعى إيران لتنفيذ "مترو دمشق"؟
أمام هذا الواقع الاقتصادي المتردّي للسكّان في مناطق سيطرة النظام، ومخاطر الحفر في البنية الجيولوجية لتربة دمشق، إضافة إلى وجود العقوبات الأميركية والأوربية يبرز السؤال التالي: ما أهداف إيران من تنفيذ هذا المشروع على الرغم من عدم تحقيق الجدوى الاقتصادية منه؟
يرى كثير من المراقبين للشأن الإيراني في سوريا، أنّ إيران تسعى من خلال توقيع اتفاقية "توءمة طهران ودمشق" بشكل عام، ومشروع المترو بشكل خاص إلى تغيير الوجه العمراني والتاريخي لمدينة دمشق (عاصمة الأمويين)، من خلال عمليات الحفر التي يحتاجها مشروع المترو.
وفي هذا السياق يؤكّد الباحث أحمد القربي -مدير وحدة التوافق والهوية في مركز الحوار السوري- أنّ إيران تسعى دائماً عند سيطرتها على أي مدينة سورية إلى تأكيد حضورها الثقافي من خلال ترسيخ بعض الأنماط العمرانية التي تنتمي إلى الطراز المعماري الفارسي، خصوصاً فيما يتعلّق بالمساجد والحسينيات والمزارات، وهذا الأمر يأتي لإثبات الوجود الشيعي في سوريا.
ويحذّر القربي في حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا، من أنّ إيران قد تستخدم مشروع المترو باعتباره مشروعاً ضخماً يعطيها قدرة على التدخل أكثر، مما يتيح لها تغيير وتشويه كثير من المعالم العربية الأموية، بحيث تبدو ملامح الحضارة الفارسية أكثر حضوراً داخل دمشق.
هذا المشروع ـ يضيف القربي ـ قد يكون مشروعاً طويل الأمد بالنسبة لإيران، التي ستستغل طول هذه المدة في رسم صورة جديدة لدمشق في أذهان أبنائها، تكون مغايرة للهوية الحقيقية لهذه المدينة العريقة.
وفي وقت سابق، أشار موقع "ميدل ايست بريفينغ" (MEB) الأميركي المختص بالأبحاث وتقييم المخاطر، إلى أنّ التحالف الثلاثي الذي يجمع النظام السوري وإيران و"حزب الله" اللبناني، قيّد نفسه بإطار زمني معيّن لتأمين المناطق الحيوية بهدف الوصول إلى أهدافهم الاستراتيجية المستقبلية، حيث تركّز هذه الأطراف على مناطق معينة مثل غوطة دمشق بشكل عام ومدينة دوما بشكل خاص، بالإضافة إلى منطقة القلمون، وسهل الغاب في ريف حماه.
من جانبها، رصدت العديد من المصادر تحركات إيرانية في العاصمة دمشق، لتغيير البنية السكانية للأحياء الدمشقية عبر تعزيز نفوذها بإنشاء الحسينيات، وبيع العقارات إلى عائلات المقاتلين الشيعة من العراقيين واللبنانيين، كما رصدت أنشطة لشركات إيرانية وسماسرة سوريين يحاولون السيطرة على أكبر قدر ممكن من المنازل في دمشق.
"أهداف أخرى لإيران"
لا تقتصر أهداف إيران من تنفيذ هذا المشروع على تغيير الهوية التاريخية لدمشق، إذ أكدت عدة تقارير أن "الحرس الثوري" الإيراني قد يلجأ إلى حيلة إنشاء المترو من أجل شرعنة حفره لأنفاق خاصة موازية تابعة له، ليضع فيها مخازن أسلحة كبيرة، أو معامل للسلاح الكيماوي، أو أنفاق استراتيجية مرتبطة بالحدود مع لبنان، أو مع المطار، من أجل تسهيل نقل السلاح أو المخدرات أو الرهائن والمطلوبين.
وهذا ما يوضّحه مصطفى النعيمي -الباحث في الشأن الإيراني- بأن موضوع حفر إيران لأنفاق نقل الأسلحة وتهريب المخدرات يعود إلى زمن بعيد، وازداد بعد تدخلها لقمع الثورة السورية، عام 2011، من خلال تعاونها مع الميليشيات والفرق العسكرية المقرّبة منها في قوات النظام مثل "الفرقة الرابعة".
ويوضح النعيمي في حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا، أنّه مع ازدياد الاستهدافات الإسرائيلية للمواقع الإيرانية في دمشق، كان لا بد من إنشاء تلك الشبكات تحت الأرض، وذلك لمنع توجيه أي ضربات جوية أميركية أو إسرائيلية.
ويشير النعيمي إلى أنّ فكرة المشروع في حال تم تنفيذه ستوفر غطاءً لإيران بهدف حفر مزيد من الأنفاق الموازية التي قد تصل إلى مطار دمشق، والذي تشكّل السيطرة عليه هدفاً استراتيجياً يؤمّن لها تموضعاً أمنياً دائماً في سوريا، في حال تم أي حل أو تسوية سياسية مستقبلاً.
وعن مدى وجود خطة بديلة عن إنشاء المشروع داخل مدينة دمشق، يقول الخبير بالتخطيط العمراني: إنّه واحد من أسهل الخطوط المقترحة هو خط موازٍ لمجرى نهر بردى، إذ إن كل مدن العالم لديها خطوط مترو تسير بمحاذاة مجاري الأنهار، وهذا برأي الخبير السوري أفضل من الحفر في وسط المدينة.
وبمناسبة الحديث عن استخدام إيران وميليشياتها لتقنية الأنفاق، يذكر أن الإعلام الحربي التابع لـ"حزب الله" نشر، شهر آب الماضي، مقطعاً مصوّراً لمنشأة عسكرية في أنفاق ضخمة قادرة على استيعاب راجمات صواريخ، وأطلق عليها اسم "عماد 4"، نسبةً لأحد قيادييه الكبار (عماد مغنية) الذي اغتيل في سوريا، عام 2008.
واللافت في الفيديو حجم المنشأة ومداها الكبير تحت الأرض، حيث تتحرك راجمات الصواريخ بين الأنفاق، بينما يتجول عناصر الحزب بدرّاجاتهم النارية داخلها.
وكان موقع "بوليتكال كيز" قد أفاد، في شهر آب الماضي، بأنّ "الحرس الثوري" الإيراني حفر شبكة أنفاق واسعة في محيط مطار دمشق الدولي، لوصل مقاره ومستودعات الأسلحة التابعة له ببعضها.
وأضاف الموقع، أنّ "الحرس الثوري" استقدم آليات عسكرية ثقيلة ومعدات وسيارات شحن وجرّافات، وبدأ عمليات الحفر على أطراف المطار من جهة جديدة الخاص وتل مسكن شرقي دمشق.
وبحسب الموقع، تعتبر عمليات حفر الأنفاق الحالية الأكبر من نوعها، إذ سبق أن أنشأت الميليشيات الإيرانية شبكة أنفاق في منطقة الأحمدية المجاورة للمطار.
صعوبات في طريق تنفيذ "مترو دمشق"
عن إمكانية تنفيذ المشروع في الوقت الحالي، يوضّح خبير التطوير الحضري، أنّه مع وجود عقوبات "قانون قيصر"، لا يمكن لأي شركة أجنبية أن تستثمر في سوريا، هذا بالإضافة إلى وجود العقوبات الأوروبية كذلك.
ويتابع الخبير السوري: "رغم عدم وجود جدوى من المشروع في الوقت الحاضر، فإنه من المستبعد أن تدخل فيه إيران فعلياً الآن، لكنها ربما قبلت الموضوع لتحجز لنفسها إمكانية الدخول بعد انتهاء ظروف الحرب، وربما تقايض فيه مقابل مشاريع أخرى".
إلى جانب ذلك يرى الباحث مصطفى النعيمي، أنّه من الصعوبة بمكان أن تعمل طهران على إنشاء مشروع مترو داخل سوريا، نظراً للوضع الاقتصادي المتردي في إيران، إضافة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على الشركات الإيرانية.
وأردف: "هدف إيران من طرح مثل هذه المشاريع الكبيرة هو ابتزاز النظام السوري في مقابل الأموال المطلوبة منه، والتي بلغت أكثر من 60 مليار دولار، ويكون ذلك بالهيمنة على القطاع الخاص والعام في سوريا".
من جهته، برّر النظام السوري عبر مسؤول الأملاك في محافظة دمشق، حسام الدين سفور، فشل مشروع "مترو دمشق" بأنّ "المشروع مُكلف اقتصادياً، والشركات لا تقدم عليه بسبب الكلفة الباهظة وعدم التناسب مع الدخل، ففي حال تنفيذه سيكون سعر التذكرة 5000 ليرة سورية كي يكون مجديا اقتصادياً للمستثمر، كون سعر التذكرة الدولية تتراوح بين 1 و2 دولار، وهذا السعر لا يتناسب مع الدخل في سوريا".