رافق عملية إطلاق النظام السوري سراح بضع مئات من الموقوفين والمعتقلين، منذ 1 أيار الجاري، ضجيج إعلامي واضح تمثل في إتاحة المجال لتجمعات بشرية ضخمة وسط دمشق، لذوي معتقلين في سجونه، بانتظار الإفراج عن دفعات جديدة من المعتقلين، مع تغطية إعلامية عبر وسائل إعلام موالية.
وبحسب الرواية الرسمية للنظام، فإن إطلاق سراح المعتقلين جرى تنفيذاً لمرسوم صادر عن بشار الأسد، ينص على العفو عن "مرتكبي الجرائم الإرهابية"، قبل تاريخ 30 نيسان 2022، باستثناء الجرائم التي أفضت إلى موت إنسان.
أعداد قليلة وانتقائية
على الرغم من الضجة الإعلامية التي أثارتها وسائل إعلام النظام السوري حول مرسوم العفو وإطلاق سراح المعتقلين، فإن التقديرات التي حصل عليها موقع تلفزيون سوريا من ناشطين حقوقيين يعملون في مجال التوثيق، تشير إلى أن أعداد من تم إطلاق سراحهم تتراوح بين 290 و325 موقوفاً ومعتقلاً، مع وعود بالإفراج عن دفعات جديدة تتجاوز 1000 شخص، جلّهم من محافظات حلب – ريف دمشق – درعا.
ومن خلال إجراء المسح لشريحة واسعة من أسماء المفرج عنهم، يمكن ملاحظة الانتقائية في اختيار الأسماء، إذ إن النظام السوري ركز على المعتقلين لديه خلال أعوام 2018 و2019 و2021، مع أعداد قليلة جداً ممن يعود تاريخ احتجازهم إلى بداية الاحتجاجات الشعبية عامي 2011 و2012، كما خلت قائمة أسماء من أُطلق سراحهم من ناشطي الحراك الشعبي في مختلف المحافظات.
ففي محافظة درعا على سبيل المثال، تضمّنت قائمة أسماء المعتقلين المفرج عنهم، والبالغ عددهم قرابة 75 شخصاً، 17 مجنداً في قوات النظام، إلى جانب 15 موقوفاً بتهم جنائية لا تتعلق بقضايا الرأي، وكذلك الأمر في محافظة السويداء، فمن تم الإفراج عنهم يعود اعتقالهم إلى أواخر عام 2021 ومطلع عام 2022، في حين ما يزال أبرز معتقلي الرأي من ناشطي المحافظة أمثال فراس العريضي، وحمود عقيل رهن الاعتقال.
أما في شمال غربي سوريا، فقد اقتصر عدد المفرج عنهم على شخصين، أحدهما كان موقوفاً بقضية جنائية.
وبحسب تقديرات صدرت عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في كانون الأول 2021، فإن ما لا يقل عن 131 ألف شخص، هم في عداد المعتقلين والمختفين قسرياً في سوريا، مع مراعاة أن هذه الأرقام تشمل من جرى توثيقهم بالاسم، أي إن هناك احتمالا بأن تكون الأعداد أكبر من ذلك بكثير.
التملص من المسؤولية القانونية
تتيح الطريقة التي يتعاطى بها النظام السوري مع ملف المعتقلين التملص من المسؤولية القانونية، فقد اشترط مرسوم العفو الأخير، استثناء التورط بقتل الإنسان.
وعادة فإن النظام السوري يجبر معتقلي الرأي على توقيع محاضر تحقيق تدينهم بجرائم قتل بحق عناصر من المؤسسة العسكرية، أو شخصيات مدنية، تحت الضغط والتهديد خلال الاستجواب في الفروع الأمنية.
ومن السهل على النظام السوري في ظل غياب القضاء المحايد أن يلصق تهم القتل بمن يريد، وبذلك يبرر عمليات التصفية الجسدية التي ظهرت في أشرطة مسربة مثل شريط مجزرة حي التضامن مؤخراً.
وفي ظل الضبابية والغموض الذي يكتنف مصير الآلاف من المفقودين، سيكون من السهل على النظام السوري اتهام القوى والأطراف الأخرى بتغييب من قام بتصفيته.
وسبق أن شكك ألكسندر لافرنتييف المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا، بالبيانات التي تطرحها المعارضة السورية حول أعداد المعتقلين في سجون النظام السوري، خلال تصريحات صحفية أدلى بها لموقع تلفزيون سوريا في شهر كانون الأول 2021، واصفاً البيانات التي تتحدث عن اعتقال مئات الآلاف بأنه "أمر غير معقول".
التسويق السياسي
من الواضح رغبة النظام السوري في استثمار قضية إطلاق سراح المئات من المعتقلين والموقوفين في التسويق السياسي لنفسه، وإبراز متغيرات في نهجه وسلوكه، حيث استبق في خطوته المتمثلة بالإفراج عن المحتجزين انعقاد النسخة السادسة من مؤتمر بروكسل الذي يرأسه الاتحاد الأوروبي، والمخصص لدعم الحل السياسي في سوريا.
وبحسب ما هو مقرر بشكل مسبق، فقد ناقش مؤتمر بروكسل الذي انعقد في 9 أيار 2022 القضايا الإنسانية في سوريا.
ويطمح النظام السوري بشكل مستمر إلى إقناع الدول المانحة بأنه يتجاوب مع جهود الحل السياسي، سواء عبر مسار اللجنة الدستورية أو ملف معتقلي الرأي، بهدف تغيير موقف تلك الدول حيال دعم عمليات إعادة التعافي المبكر.
ملف المعتقلين مصدر للدخل المالي
لقد بات ملف المعتقلين مصدراً للدخل المالي لضباط الفروع الأمنية لدى النظام السوري والشبكات المرتبطة بها.
عائلة المعتقل (أحمد.ع)، أكدت لموقع تلفزيون سوريا أنها دفعت لمحامٍ مرتبط بالأمن العسكري في دمشق يدعى (فهد.ز)، مبلغاً مالياً قدره 6 ملايين ليرة سورية، بعد أن وعدها بالكشف عن مصير ابنها، لكن دون أن تتمكن من الحصول على معلومات في نهاية المطاف.
شقيق المعتقل (ط.أ)، الذي جرى اعتقاله في محافظة درعا منذ عام 2013، تحدث إلى موقع تلفزيون سوريا، وأكد دفع عائلته مبلغ 15 مليون ليرة سورية كدفعة أولى لمساعد أول في المخابرات الجوية، مقابل الإفراج عن شقيقه الذي يفترض أنه موقوف في سجن المزة، إلا أنهم خسروا المبلغ دون تنفيذ تلك الوعود.
وتنشط شبكات السماسرة لصالح الفروع الأمنية في قضية المعتقلين بمحافظات دمشق – درعا – حماة، حيث يستغلون لهفة عوائل المفقودين للحصول على معلومات عن أبنائهم، أو زيارتهم في أماكن احتجازهم، مقابل مبالغ مالية تتراوح بين 3 ملايين و20 مليون ليرة سورية بحسب وضع المعتقل أو المغيب قسرياً، وقد باتت هذه المبالغ مصدر دخل لمختلف الفروع الأمنية وضباطها.
وبعد إفراج النظام السوري مؤخراً عن بضع مئات من المعتقلين، نشطت حسابات على فيسبوك تنشر معلومات عن مفقودين أو معتقلين، وتدعي أنهم موقوفون في سجون أو فروع أمنية محددة، واللافت أن هذه الحسابات تنشر أحياناً أسماء لمعتقلين وصلت معلومات إلى ذويهم قبل سنوات طويلة عن تصفيتهم ميدانياً، أو موتهم تحت التعذيب.