في استلهام لمأساة أخرى من التراجيديا اليونانية، أنجز المخرج (عمر أبو سعدة) والكاتب (محمد العطار) العرض الثاني من الثلاثية الإغريقية التي أطلقت في عام 2014. العرض المسرحي قُدّم في بيروت وحمل عنوان "أنتيغون شاتيلا" وهو إعادة تأويل لنص سوفوكليس "أنتيغون" بُنيَ على قصص مجموعة من النساء السوريات اللواتي لجأن إلى مخيم شاتيلا، قادمات من رحلة نزوح انطلقت من حلب، وحماة، وريف دمشق، ودرعا.
العدالة، القانون، والتمرد في أنتيغون
تضمر حكاية مسرحية "أنتيغون" (مُثلت في العام 441 ق.م) مجموعة من الموضوعات التي تجعلها اقتباساً مسرحياً حياً عبر التاريخ لمفاهيم السلطة والتمرد، الحرب والشعوب، القانون الوضعي والقانون الأخلاقي. حيث حملت مسرحية "أنتيغون" لـ سوفوكليس مناقشة موضوعات العدالة، ومثلت الحقيقة كلما سلطت القوة بطشها على الحق.
يكتب (علي حافظ) أبرز مترجمي النص الإغريقي إلى العربية: "دخلت أنتيغون فقه العدل من أعز أبوابه: الحق الصارم ظلم صارم"[1].
وشخصية أنتيغون من الشخصيات النسائية التي لقيت عناية خاصة من الكتاب والفنانين والباحثين في القرن العشرين (فالتر هازنكليفر، 1917) و(جان كوكتو، 1922) و(جان أنوي، 1944)، بالإضافة إلى (بروتولد بريشت، 1948). ويلاحظ رولان بارت[2] أنه أياً كانت التنويعات أو التغييرات التي دخلت على بنية التراجيديا الإغريقية على مر العصر، فإن هذه البنية قد حافظت على ثابت واحد هو المعنى المتمثل في التناوب المنتظم بين الكلام والغناء وبين الحكاية والتعليق.
الحقيقة أمام بطش القوة
بعد وفاة أوديب يتنازع ولداه (إيتوكليس وبولونيكيس) على حكم طيبة وتؤدي المبارزات والمعارك إلى وفاة كلا الولدين، وأن يعود (كريون) مرة أخرى لحكم طيبة، وكان أول قراراته أن أمر بدفن جثة (إيتوكليس) في احتفال رسمي مهيب لأنه مات وهو يدافع عن وطنه، وأمر بإقامة قبر ضخم يليق به وبمكانته، ويقرر أن تترك جثة (بولونيكيس) في العراء دون دفن ودون جنازة وبلا أي مراسم تكريم لأنه مات خائناً، وتوعد كريون بالموت لكل من يخالف أوامره.
تقرر أنتيغون (وهي ابنة أوديب) أن تجري عملية الدفن وحدها بعد أن أصاب أختها "إسميني" الفزع من الإقدام على ذلك. إسميني ترى أن دور النساء لا يشمل التدخل في هذه الأمور، ما يجعل من الاختلاف بين الأختين اختلافاً في الرؤية حول دور المرأة في المجتمع، والأدوار النمطية المناطة بالرجال والنساء.
"إسميني: إننا لسنا إلا نساء لا قبل لنا بمقاومة الرجال ثم إن حكامنا أشد منا قوة، ولابد لنا من طاعتهم مهما كان حكمهم أليما، وأنا أسأل من طوت الأرض أن يقبلوا عذري لأني مكرهة على أن أطيع أولي الأمر. ومن يعارض تياراً أقوى منه فليس من الحكمة في شيء[3].
أنتيغون: أنا سأدفن أخي والموت شرف في سبيل هذا الواجب".
في العرض المعاصر (أنتيغون شاتيلا) فإن قصص النساء السوريات هي التي تصنع المسرحية، حكاية "الحاجّة فدوى" التي أصرّت على تهريب كل عائلتها من مخيم اليرموك بدمشق إلى لبنان، وفقدت ولديها الاثنين. الولد الأكبر قتل أمام عينيها وهو في نزهة أمام بحر بيروت، ثم فقدت الأصغر الذي قتل بعيداً عنها وهو خارج من الصلاة في مخيم اليرموك. وحكاية "منى" التي تتلو مذكراتها وتربط قصص كل تلك النساء بعضها ببعض خلال العرض. لم تتمكن منى من دفن ابنها "بدر" المصاب باللوكيميا دون أن تضع شاهدة على قبره. وحكاية "رضيّة" التي تعرّضت لدى وصولها إلى لبنان مع سائر ركاب الحافلة لنوبة شتم وضرب حينما قالت إنها مع المعارضة. كل هذه القصص متضمنة في حكاية أنتيغون الأساسية، فقدان الأقارب بالموت، عدم الدفن اللائق لأجساد الضحايا، والمواجهة الاجتماعية والسياسية.
الإرادة الفردية بدلاً من القدر المفروض
تكتب الناقدة (منى مرعي) عن أسلوب العمل في عرض (أنتيغون شاتيلا): "التراجيديا اليونانية التي اعتدناها بجوقة تتلو في 24 ساعة مأساة فرد واحد اجتمعت فيه وحده سمات البطولة، تتحول هنا إلى امرأة أمام الكومبيوتر تسرد تفاصيل مأساة مجموعة من النساء، وجوقة من الألم. هنا نقطة التحول: فرد يتلو مأساة الجوقة/ الجماعة. تتلو المرأة مذكراتها هي الآن على الخشبة، تنتقل من تاريخ إلى آخر، ناقلة مشاعرها ومكنوناتها منذ اليوم الأول للقاء المجموعة حتى الساعات القليلة التي تسبق العرض. تدخن سيجارةً بين حين وآخر، وتمهد للمشاهد الفردية لكل امرأة من الجوقة؛ هنا تظهر أنتيغون السورية"[4].
عمل العرض السوري مع نساء يصعدن خشبة المسرح لأول مرة (درّبت الممثلات حلا عمران). تتابع الناقدة (مرعي): "من يتابع التسلسل الدرامي لنصوص هؤلاء النساء، سيجد، رغم حلقة الآلام المحكمة تلك،ـ توقاً إلى الحياة ممزوجاً بعجز، ممزوجين بدورهما بقبول مؤقت، بتمسك بأمل ما ولو كان ضئيلاً: لشدة الألم، أصبح تعاملهن معه متقناً إلى درجة تصبح لحظة الاعتراف الوحيدة بوجوده بتلك الشفافية هي على الخشبة. انتهت البروفة. موجعة جداً كانت مشاهدة هذا العرض"[5].
في وجه الطغيان وممارسات الحروب
أما برتولد بريشت فقد اقتبس أنتيغون لإعجابه بموضوع مقاومة الطغيان. ويبدأ بريشت مسرحيته بمشهد تمهيدي تجري أحداثه في برلين في شهر نيسان/ أبريل سنة 1945، عندما كانت الحرب العالمية الثانية على وشك الانتهاء. تخرج شقيقتان عند الفجر من ملجأ بني للحماية من قصف الطائرات وتعودان إلى بيتهما فتجدان شقيقهما مشنوقاً أمام البيت وكان قد فر من فرقته المنسحبة. ربما كان لا يزال على قيد الحياة فهل تجرؤ إحدى الشقيقتين على قطع الحبل أمام جندي القوات الخاصة الموجودة في المكان؟ مسرحية بريشت تتناول قصة الحرب التي شنها حاكم طيبة على مدينة أرجوس، وذلك بهدف الاستيلاء على مناجم الحديد الغنية الموجودة بها حتى يتمكن من تزويد مقاتليه بحراب جيدة، وعندما طال زمن الحرب إلى درجة تفوق التوقعات يتمرد جنوده عليه وتسري موجة من العصيان بين صفوفهم وتنتهي المسرحية بخسارة الحرب وضياع طيبة[6].
يكتب بريشت في تقديم نصه المسرحي: "وإذا كان اختيارنا قد وقع على مسرحية أنتيغون فذلك لأن موضوعها يستطيع أن يعطيها طابع الحالية، وتستنهض صيغتها مشكلات على قدر كبير من الأهمية. أما فيما يتعلق بالناحية السياسية، فإنه يكفي أن تعاد منهجة المسرحية حتى تظهر التماثلات مع العصر الحالي. إن مشروعنا لم يكن برهاناً على علم مسرح جديد، بقدر ما كان مناسبة لتجريب أسلوب جديد في التمثيل على نص مسرحي قديم"[7].
وعن عرض أنتيغون السوريات تكتب الناقدة (مرعي): "لعبت النساء دوراً كبيراً في بناء نصّ العرض واللعب على تقاطعاته. أحد التمارين التي كان يقترحها العطار على النساء هو كتابة مذكراتهن الشخصية. كان مجرد تمرين يساعدهن على البوح وتم استثماره لصالح إضفاء شخصية الراوي. تبدلت بعض الحكايات، وركز العرض على يوميات تلك النساء كلاجئات في شاتيلا. أنتيغون اليوم هي لاجئة مع بطاقة لجوء وتحديات جديدة ومهولة. لم تعد تقف على أطلال سوريا رغم حضور سوريا الدائم في خلفية العرض. كل ما يعشنه أولئك النساء اليوم هو نتيجة كونهن سوريات. هكذا سوف تظهر للمشاهد أنتيغون جديدة"[8].