يتباهى مثقفون سوريون، بعضُهم مؤيدون لنظام البراميل، وآخرون معارضون، بما قاله عالم المسماريات الشهير، شارل فيرلو، بأن كل إنسان في العالم له وطنان: وطنُه الأم وسوريا.
بداهة، لا يجوز لأحد لَيُّ ذراع هذه المقولة، وسحبها من إطارها التاريخي - فقد قيلت أثناء فك رموز أبجدية أوغاريت - إلى العصر الحديث، فإن سُحبت ستبدو مضللة، مؤذية، تعطي للإنسان السوري اعتداداً بالنفس كاذباً.. ومثلها، تقريباً، أغنية المجموعة الغنائية مع الفنان عبد الرحمن آل رشي "أنا سوري آه يا نيالي" التي يواجهها السوريون، كلما سمعوها، بتساؤل مرير، هو:
- هنيئاً للسوري على أيش يا خيو؟ على الديكتاتورية وقتل الناس تحت التعذيب؟ أم على توريث الحكم لسلالة البلهاء كبشار وابنه؟ أم على تحالفنا مع أصحاب عمائم إيران وقَتَلة حزب الله؟ أم على انخفاض دخل الفرد في البلاد إلى 15 دولاراً في الشهر ونزول غالبية الشعب السوري تحت خط الفقر؟ أم على الأفراح التي يقيمها سوريون مصنفون في خانة معارضي النظام الديكتاتوري احتفاء بسيطرة حركة طالبان المستبدة المتخلفة على أفغانستان؟
تحتل المركز الأول، من دون منافس، في التعذيب، والبؤس، وتصدير اللاجئين إلى العالم، إضافة إلى أن جواز سفرها هو الأغلى ثمناً، والأقل قيمة، على مستوى العالم..
في سبيل مناقشة مقولة عالم التاريخ شارل فيرلو؛ أشير إلى أن الموضوعية الصحفية تقتضي ألا يتبنى الكاتبُ أيةَ نسبة مئوية تقديرية، غير ناجمة عن إحصاء رسمي.. ومع ذلك، سأتجرأ وأخالف القاعدة، وأقول إن 75% من سكان الكرة الأرضية، بتقديري، لم يسمعوا بـ وطننا "سوريا"، مجرد سماع، وأما الـ 25% الباقون فقد سمعوا باسمها من خلال ما يصدر من الإحصائيات العالمية التي تحتل فيها سوريا مرتبة "الطشّي"، أو قبل الطشّي بخانتين، من حيث مستوى المعيشة، والشفافية، والأمان، والسعادة، ونظافة البيئة، والصناعة، والزراعة، والتجارة، وأنها تحتل المركز الأول، من دون منافس، في التعذيب، والبؤس، وتصدير اللاجئين إلى العالم، إضافة إلى أن جواز سفرها هو الأغلى ثمناً، والأقل قيمة، على مستوى العالم..
كان التلفزيون الرسمي في سوريا، يبث، على أيام حافظ الأسد، ندوات (فكرية)، تستضيف أشخاصاً يُكتب بجوار اسم الواحد منهم صفة الدكتور، أو الباحث، أو المفكر، أو الخبير الاستراتيجي، عنوانُها من قبيل "المقومات الأساسية لفكر حافظ الأسد".. وكانت تُؤَلَّفُ كتب (تنشر أو قد لا يوفق مؤلفها بنشرها)، بعنوان "مقاربات في فكر القائد حافظ الأسد".
هنا لا بد من طرح السؤال: عن أي فكر تتحدث يا سيد؟! فالرجل، حافظ، معه شهادة بكالوريا، (أدبي؟ علمي؟ بمجموع قليل، أو كثير؟ للأمانة لا أعرف). تطوعَ في الكلية الحربية، وتخرج فيها برتبة ملازم، وحصل، مع مرور الزمن، على عدة ترفيعات، وكان طَموحاً، لا ينقصه الدهاء والمكر، فاشتغل على تلميع نفسه، وتكتل مع ضباط آخرين، إما على أساس الرفاقية البعثية، أو على أساس المذهبية، أو المناطقية، وشارك في حركة 23 شباط الانقلابية، وصار وزيراً للدفاع، وخسر أول حرب خاضها، 1967، خسارة لا ينبت فوقها عشب، (يعني لا يمكننا أن نتحدث عن "فكر" عسكري لديه أيضاً)، ثم تآمر على رفاقه، وانقلب عليهم سنة 1970، (أو منذ آذار 1969 كما يوضح الباحث نشوان الأتاسي في إحدى حلقات برنامج الذاكرة السياسية) واحتل سوريا، وعمل فيها "جنة وناراً"، وخربها، وأورثها لابنه غير المؤهل، ولم يُعرف عنه، في يوم من الأيام، ثقافة، أو مطالعة، أو كتابة مذكرات، ولم يكن ميالاً - كالخليفة المأمون مثلاً - إلى تقريب العلماء والمفكرين، أو الاهتمام بالبعثات والتراجم والمساجلات، لا بل إن العكس هو الصحيح، فأكثر الذين كانوا يعانون من الاضطهاد في عصره هم: المفكرون، والمثقفون، والصحفيون، والفنانون. وكان يكفي أن تصله همسة، تتضمن وشاية على صحفي يعمل في جريدة البعث، مثلاً، حتى تستنفر كراهيتُه المثقفينَ، ويأمر – شفهياً – بإرسال الصحفي، وزملائه، وعاملِ البوفيه، وعمالِ المطبعة، والحراس الذين كانوا مناوبين وقت حصول الحادثة التي تضمنتها الوشاية، إلى سجن يَعرف كل الناس بدايته، وأما علمُ نهايته فيبقى حكراً عليه وحده، وللإنصاف كان يمكن مفاتحة حافظ الأسد بأمر معتقلين ليسوا معارضين سياسيين أصلاً (كمحرري جريدة البعث مثلاً) بعد سنتين من لحظة الوشاية، ولكن ليس قبل سنتين، وأما المعتقلون المعارضون فلا يمكن فتح مثل هذا الحديث معه إطلاقاً.
يقول الأديب السوري الكبير إبراهيم صموئيل، في حوار أجراه معه المخرج "الفوز طنجور" في فيلم "ذاكرة بلون الكاكي"، إن المرأة السورية التي تشهد عملية اقتحام رجال الأمن بيتها، ويشحطون زوجها أمام أسرته، قد تتجرأ وتسألهم:
- لوين آخدينو؟
ويوضح إبراهيم أن المرأة لا تسأل عناصر الدورية (ليش آخدينو؟)، فهذا السؤال ليس من حق أحد أن يطرحه.
على الجانب النقيض من الأشخاص الذين ينتحلون صفة باحث أو مفكر أو خبير استراتيجي، ويقيمون ندوات يمتدحون في حافظ الأسد؛ ثمة أناس لا يمكن إيقاعهم في مثل هذا المقلب.. وهنا تحصل مشهدية طريفة تحدث عنها، ذات مرة، المخرجُ الكبير هيثم حقي، فقال إن أحمد اسكندر أحمد عُيِّنَ، في منتصف السبعينات، وزيراً للإعلام، وجاء إلى الوزارة متسلحاً بخطة تقضي بتقديس حافظ الأسد، فأعطى العاملين تعليمات تنص على أن (تُدْحَش) أقوالُ حافظ، وأفكاره، ومفاهيمه، ورؤاه، في كل البرامج التي ستُعَدُّ اعتباراً من هذا التاريخ.
المذيع كاد يبكي من الغيظ وهو يحاول أن يدحش أقوال الأسد في السياق لكي يرضى عنه السيد الوزير، والأستاذان لا يكترثان له، ولا كأنه موجود معهما!
وذات يوم.. كان أحد المذيعين - وهو رجل مطيع ومخلص - يسجل حلقة من برنامج ثقافي عن "مفهوم الحرية"، وقد استقبل اثنين من كبار أساتذة الفلسفة بجامعة دمشق، ممن درسوا في فرنسا أيام الحرب العالمية الثانية، وتربوا على الثقافة الغربية. وبدأ كل منهما يعدد مقولات الحرية ومفاهيمها عند الفلاسفة منذ أفلاطون وحتى اليوم. وصاحبنا المذيع، كل شوي يقاطعهما ويقول:
- نعم.. والسيد الرئيس حافظ الأسد له قول مهم في هذا السياق!
ويسرد قولاً مأخوذاً من أحد خطابات حافظ الأسد.
والأستاذان يتجاهلان تعليقه، ويقول أحدهما، مثلاً:
- وأما جان بول سارتر فقد كان يرى.. إلخ.
واستمر اللقاء كله على هذه الشاكلة، والمذيع كاد يبكي من الغيظ وهو يحاول أن يدحش أقوال الأسد في السياق لكي يرضى عنه السيد الوزير، والأستاذان لا يكترثان له، ولا كأنه موجود معهما!
***
أخيراً، لقد تمكن السوريون الظرفاء، بعد كارثة التهجير الكبرى التي اشترك فيها بشار الأسد مع روسيا وإيران وحسن نصر الله وداعش وشبيهاتها، من قلب مقولة عالم الآثار شارل فيرلو، فأصبحت:
لكل سوري وطنان، سوريا، والدولة الأوربية المحترمة التي استقبلته وهيأت له الحد الأدنى، بل وأكثر، من العيش الإنساني الكريم.