لم يعد كثير من المسلمين يشعرون بالأمان بعد أسبوع من أعمال الشغب العنصرية التي عمت أرجاء إنكلترا، بيد أن بعض المجتمعات المحلية تبذل قصارى جهدها لحل الخلافات ومنع ظهور مزيد من العنف.
حدث شيء مقلق في ليفربول منذ أن بدأت أعمال الشغب ذات التوجه العنصري اليميني المتطرف تهز مدن إنكلترا وأيرلندا الشمالية خلال الأسبوع الماضي، ولذلك بدأت المسلمات بتبادل نصائح أمان بسيطة عبر الإنترنت، إذ نقرأ في أحد المنشورات: "ابقين ضمن مجموعات، ولا تفتحن نوافذ السيارة، وأقفلن الأبواب".
كما عانى الأطفال الملونون رعباً شديداً منعهم من الانضمام لنادي الشباب المحلي الذي يقام خلال إجازة الصيف، وصار أقدم مسجد في المملكة المتحدة يغلق أبوابه بالسلاسل طوال اليوم، في حين يقوم مسؤول من وزارة الداخلية بحراسته من الداخل منعاً لحدوث أي خطر يتهدده.
ولكن ثمة شيء مميز حدث إلى جانب كل ذلك، إذ تهلل وجه الإمام آدم كليويك وهو يتقدم لإمامة المصلين بمسجد عبد الله كويليام، ويخبرنا بأن مرد ذلك يعود لانشغاله ببناء الجسور على حد تعبيره.
أثار كليويك انتباه العالم خلال الأسبوع الماضي عندما ظهر في صورة وهو يعبر صف المحتجين خارج المسجد الذي يصلي فيه ليعانق رجلاً ضمن الحشد كان يهتف بشعارات معادية للإسلام، وعن ذلك يعلق قائلاً: "أتينا إلى الطرف الذي كانوا فيه، وتناولنا الطعام معاً، وتبادلنا الابتسامات، ثم تحدثنا واستمعنا لبعضنا".
الإمام آدم كليويك
بيد أن الأمور اتخذت منحى لم يتوقعه أحد يوم الثلاثاء الماضي، ويشرح كيلويك ذلك بقوله: "أتيت لتوي من عند شخص شارك في أعمال الشغب، ولقد تواصل هذا الرجل معي، وكل ما فعلناه اليوم هو أننا تناولنا القهوة معاً، ثم أخبرني بأنه يشعر بالندم لمشاركته في أعمال الشغب، فهؤلاء أشخاص حقيقيون يعتريهم القلق والخوف بحق، ولكن بمجرد أن يدركوا بأننا بشر مثلهم، أي إن مجتمعنا يهمنا أيضاً، ونخاف على أهلنا ونريد الخير لبلدنا، عندئذ يدركون بأننا نشاطرهم معظم تلك المشكلات التي نعيشها اليوم".
تبرعات لإصلاح المباني التي دمرها مثيرو الشغب
على بعد دقائق بالسيارة من ذلك المكان يكتشف المرء بأن مكتبة سبيللو ما تزال تعيش حالة فوضى عارمة، على الرغم من إصلاح النوافذ التي تحطمت، ولكن ذلك تم على عجل، ونقلت الكتب واللوازم التي نجت من نهب من قاموا بأعمال الشغب يوم السبت إلى مكان آمن، كما وضعت باقة من أزهار عباد الشمس بشكل مقلوب بين رقائق الخشب والزجاج الملطخ بالوحل.
مكتبة سبيللو
ولكن ثمة بوادر أمل ظهرت مع كل ذلك، إذ تخبرنا خبيرة تجميل الأظافر في المنطقة، واسمها آليكس ماكورميك، بأن فؤادها قد تحطم عندما علمت بنبأ اقتحام المساحة المخصصة للجالية المسلمة في المدينة وسط الفوضى التي حدثت خلال عطلة نهاية الأسبوع، ولذلك سارعت آليكس لإنشاء صفحة لجمع التبرعات عبر الإنترنت، وهدفها المتواضع جمع 500 جنيه إسترليني، ولكن في غضون أيام قليلة، تمكنت من جمع مبلغ يزيد على 150 ألف جنيه إسترليني (أي ما يعادل 190 ألف دولار).
ومن أمام المكتبة علقت آليكس على ذلك بقولها: "لم يخطر ببالي أن تصل الأمور إلى هذا الحد، ولكن وصلتنا تبرعات من مختلف بقاع العالم، إلى جانب كثير من الرسائل اللطيفة والمشاركات والتعليقات المشجعة، حتى أن بعض الناس تبرعوا بكتب حقيقية، أي إن حجم الدعم كان هائلاً".
هل ستندلع الاضطرابات من جديد؟
بالقرب من مركز المدينة، تخبرنا معلمة المدرسة جيما غراي بأنها تخشى على طلابها وعلى مجتمعها، وتقول بإن ليفربول ما تزال تبدو مثل برميل بارود، وتعلق على ذلك بقولها: "إننا لا نشهد تبعات ما حصل، لأنني لا أعتقد أن الأمور انتهت عند هذا الحد، ثم إن المرء يخشى على مدينته من وقوع الأسوأ، خاصة بعد تفشي مشاعر بين الناس مفادها: إلى أين سنمضي الآن؟ إننا تائهون".
بدأت أسوأ اضطرابات شهدتها المملكة المتحدة طوال عقد من الزمان عقب عملية طعن جماعية وقعت في ناد للأطفال بمدينة ساوثبورت الساحلية، فكانت تلك الحادثة بمثابة صدمة هزت الشعب البريطاني، وبما أن عمر القاتل لم يتجاوز 17 عاماً، لذا أخفيت كامل تفاصيل هويته طوال أيام، وقبل أن يمضي وقت طويل على ذلك، انتشرت مزاعم مغرضة تفيد بأن القاتل طالب لجوء مسلم، فلم يهدأ غضب الناس حتى بعدما أعلنت الشرطة أخيراً بأن المتهم اسمه آكسيل روداكوبانا، من مواليد كارديف بويلز، وبأن أصول أبويه تعود لرواندا، ولا علاقة لهم جميعاً بالإسلام.
وتعقيباً على ذلك تقول كلاوديا وولنار، وهي باحثة لدى مركز RUSI للأبحاث الأمنية: "تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى بيئة حاضنة للتضليل الإعلامي، إذ من هناك ينشر اليمين المتطرف سرديات مغلوطة، ونظريات المؤامرة، ومحتوى تحريضي يذكي المخاوف والتمييز الموجود بالأصل، وبالنسبة لأعمال الشغب التي وقعت في ساوثبورت، فقد انتشرت المعلومات المضللة عن الحادثة حتى تذكي مشاعر الغضب، وتلامس المخاوف والشكوك الموجودة بالأصل، وحتى تحشد الأفراد وتقوم بتعبئتهم وتحريضهم على القيام بشيء ما".
وتخبرنا وولنار بأن الأحداث تمثل ذروة سنام مشكلات بقيت لزمن طويل بلا حل داخل المملكة المتحدة، وتقول: "أسهم التقلقل الاقتصادي والتقلبات الثقافية والخطاب السياسي في زيادة حالة العداء تجاه المهاجرين والأقليات".
ذكريات مؤلمة تنتاب المسلمين البريطانيين من جديد
تحدث أغلب المسلمين البريطانيين الذين أجرينا مقابلات معهم عن إحساسهم بوجود تراكم لتلك المشاعر منذ فترة طويلة إلى أن وصلت الأمور لمرحلة الغليان، ومن بين العوامل التي أسهمت في حدوث ذلك برأي زاف إقبال وهو سائق سيارة أجرة عمره 60 عاماً خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وخطاب استعادة السيطرة على حد تعبيره، ويعلق على ذلك بقوله: "إنه لجهل وسخط جرى توجيهه بصورة خاطئة".
وبما أن إقبال ولد ونشأ في ساندرلاند لأبوين من باكستان، لذا فإنه يحس بالانتماء للمجتمع الآسيوي البريطاني في المملكة المتحدة، والذي يشكل 9.3% من سكان إنكلترا وويلز بحسب أرقام إحدى الإحصائيات.
يخبرنا إقبال أنه يتمنى لأطفاله ألا يعيشوا العنصرية التي عاشها في طفولته، بيد أن هذه الذكريات تبدو مألوفة جداً بالنسبة له، فقد ألفى إقبال نفسه محبوساً داخل مسجد المنطقة خلال عطلة نهاية الأسبوع عندما أخذت الشرطة تمنع الناس من الاحتشاد خارج المسجد، وعن تلك التجربة يقول: "كانت مخيفة"، ولكن حتى بعد انتهاء أعمال الشغب، بقي إقبال عرضة لإهانات عنصرية سمعها في الشارع خلال اليوم التالي.
وكغيره من الناس، عقد إقبال العزم على معالجة الانقسامات التي تفاقمت إلى حد كبير، فأصبحت أهم أولوية لديه منع التوتر من التفاقم والتحول إلى خوف حقيقي.
لا تكوى النار بالنار
يوم الإثنين انتشرت أنباء تفيد بنزول مجموعات من الشبان الآسيويين البريطانيين إلى شوارع برمنغهام، كما وردت أخبار حول تعرض صحفيين ومراسلين للتهديد على يد مسلحين.
وعن ذلك يخبرنا من ليفربول محمد خليل، 24 عاماً، وهو شاب ولد في اليمن، فيقول: "لا أؤيد هذا الجزء من الموضوع، إذ لا يجوز لهم أن يعالجوا النار بالنار، بيد أنهم قدموا الذخيرة للطرف الآخر، ونحن لا نريد ذلك، كما أن ذلك لا يمثل الإسلام".
أعمال الشغب في ليفربول
من جانبه يحاول الإمام آدم كيلويك نشر هذه الرسالة أيضاً، حتى في الوقت الذي تستعد الشرطة لمزيد من الاضطرابات في يوم الأربعاء، ولهذا يخاطب هذا الإمام الناس بالقول: "حافظوا على هدوئكم لأنكم إن صرتم تردون على العنف بالعنف وعلى السطو بالسطو وعلى الجريمة بالجريمة، فإنكم ستتحولون عندئذ لمجرمين عنيفين وبلطجيين، تماماً كالأشخاص الذين تشتكون منهم".
الشرطة تستعد لاضطرابات جديدة
الشرطة تستعد لمزيد من الاضطرابات
يخبرنا خليل بأنه يخطط للمشاركة في مظاهرة مناهضة وذلك لحماية مركز لدعم طالبي اللجوء ورد ضمن قائمة المواقع المعرضة للاستهداف عند نشوب مزيد من الفوضى خلال الأيام القادمة، ويقول: "بنيت ليفربول بسواعد المهاجرين" في إشارة إلى تاريخ المدينة العريق كونها محوراً للقادمين والراحلين، ولهذا يأمل هذا الشاب بأن يكون التجمع هذه المرة مسالماً وخالياً من العنف الذي وقع خلال الأسبوع الماضي، وهذا ما دفعه للقول: "ليست ليفربول رمزاً لذلك، ولا يمثلها ما حدث".
المصدر: Info Migrants