أهو الفقر أم أن أمراً آخر أوصل المرأة المهجّرة في مدينة الباب لتقتل طفليها؟..سؤال لابد من أن يجيب عليه أحد، أو لنذهب جميعنا إلى الجحيم خشية على أحلامنا التي باتت في مهب الريح تذروها أينما شاءت.
هل تصدقون أن الفقر هو الذي أوصل أمّاً إلى حد الجنون لتقتل أطفالاً هربت بهم من حصار الغوطة إلى جحيم هجرتها القسرية في شمال البلاد، وهل يمكن لعاقل أن يقبل انتحار عجوز مصاب بالزهايمر في أحد مشافي العاصمة على أنه أمر عادي؟.
الأكثر قسوة هو ما بعد القتل حيث حاولت الأم الانتحار لكنها لم تنجح فأنقذها الجيران، وهو بالتأكيد ما لم تكن تريده، وهنا قلب الحقيقة إذ تتساوى الحياة مع الموت، والقهر وحده فقط من يطلق النار على الروح، حينما تتوالى الأسئلة عن معنى ما مرّ، وما فعلناه، ومَنْ أراد لنا هذه المصائر؟.
على أبواب بيروت سنة 1982 ومن على شرفة بيته أطلق الشاعر اللبناني خليل حاوي الرصاص على رأسه قبل أن يشاهد مدينته الحبيبة المحاصرة وهي تتداعى أمام ضربات الصهاينة وسط عجز عربي ودولي عن وقف المذبحة، وكأنه يصفع العالم برأس مثقوب بالرصاص، وإعلان عن هزيمة جمعية ليست لشاعر فقط بل لأمة بمثقفيها وساساتها.
علينا أن نجد خلاصنا وخلاص هؤلاء قبل الوصول إلى ما قاله الروائي المصري بهاء طاهر: (عندما تقرر الانتحار تكون وقتها قد مت بالفعل .. ما ينقذونه بعد ذلك لا يكون هو أنت ولكن جثتك)
هل تصفعنا المهجرة ابنة الغوطة بقتل ولديها ومحاولة انتحارها، وهل تريد منا أن نتحرى عن الذي أوصلها إلى هذا الخيار، وأية رسالة تلك التي تريد إيصالها إلينا نحن الذين نجيد الكتابة عن الأمل والثورة والقتال؟.
هُزمنا عندما سقطت الفكرة النبيلة الأولى في فخ الفصائل والكتائب والتحالفات، وانحرفت بوصلة الهتافات الأولى عندما قبلنا أن ترهن بالمال مقابل المصالح الدولية والإقليمية، ووحدهم البسطاء الصادقون دفعوا أثمان أضعاث أحلام فتيان السياسة دماً ومالاً وأبناء، ووحدهن الأمهات من ذرفن الدمع ونزفن الدم على المعتقلين والشهداء والمفقودين.
تبدلت وجوه الساسة كما يبدل لاعبو الكوتشينة أوراقهم، من المجلس الوطني إلى الائتلاف، وطعنت المنصات خاصرة الجميع، وتلونت الخطابات السياسية من جبهة إلى أخرى، وتحول اليسار إلى اليمين إلى الوسط، وارتدى العلمانيون تارة لباس الإسلاميين وفي أخرى أرخوا لحاهم الوطنية من أجل نصرة الشعب الذي ذهب إما ضحية البراميل أو التسويات الخائبة.
إعلاميون يرددون أناشيد الانتصار ثم بيانات التخوين، أبواق لفصائل ضد أخرى تحت عناوين نصرة المظلومين وإعلاء راية الثورة، وألقاب توزع بالمجان من ناشط إلى باحث، ومن مدرب إلى مراسل، وهكذا سعى الجميع لمجد الذات بعد خراب الحلم.
لأجل هذا يتكاثر اليائسون والبائسون والهارعون إلى حتفهم بأيديهم وأيدي أحبتهم هذه المرة، ولأجل هذا فمن الواجب أن ينتبه العاقلون إلى رسائل موتى الاختيار، وأن يروا بأعينهم لا بمصالحهم لماذا يذهب هؤلاء التعساء بشهوة إلى النهايات.
علينا أن نجد خلاصنا وخلاص هؤلاء قبل الوصول إلى ما قاله الروائي المصري بهاء طاهر: (عندما تقرر الانتحار تكون وقتها قد مت بالفعل .. ما ينقذونه بعد ذلك لا يكون هو أنت ولكن جثتك).