بكل بساطة لا يملك المتابع لأخبار الصحافة المحلية إلا أن يهرع إلى أعلى برج دمشق في منطقة المرجة ويرمي نفسه من الطابق الأخير، عسى أن يرتاح من كم الوقاحة والصفاقة التي وصلت إليه مع عامليها، فالسوريون حسب العنوان الآتي: (جامعة تشرين في المرتبة الأولى بين الجامعات السورية للعام 2022 وفقاً لتصنيف عالمي)- ليسوا سوى مجموعة ساذجة لا تقرأ سواهم ويمكن تمرير ما يشاء قادة الإعلام ترويجه في أن بلادهم بخير علمياً وصحياً واجتماعياً وأمنياً، وفي الوقت نفسه يتقاطع الخبر مع عنوان فاقع لأحد نجوم النظام ولصوصه عمار ساعاتي: (الوطن ليس بحاجة لعواطفنا فقط، الوطن بحاجة لعملنا) وهنا لا تدرك للوهلة الأولى من هو المخاطب هنا أهو المواطن أم المسؤول، فالأخير لم يقف أبداً عند حدود المشاعر فما زال يعمل على استنزاف الثروات وافتتاح المطاعم الروسية، وهذا يعني أن الكلام موجه للمواطن الذي يشكي ويبكي ضيق الحال والحيلة.
تعنون صحيفة (انخفاض مونة المكدوس والزيتون 50 بالمئة لدى المواطنين). يلي ذلك عنوان آخر (الاقتصاد: السماح باستيراد البتوكس والفلر)
في مقلب آخر من صحافة النظام المنفصلة عن الواقع، تظهر التناقضات الحادة فيما يحصل على الأرض فتعنون صحيفة (انخفاض مونة المكدوس والزيتون 50 بالمئة لدى المواطنين). يلي ذلك عنوان آخر (الاقتصاد: السماح باستيراد البتوكس والفلر) فيأتي تعليق من صحفي محلي أيضاً: (أما بالنسبة لأدوية السرطان وحليب الأطفال كما تعلمون إن قانون قيصر لا يسمح بذلك).
في شأن الأمن والأمان الذي طالما تغنى به النظام كأحد إنجازاته السابقة والحالية، وكإرث وطني يعلو صوته على ضوء جرائم يندى لها الجبين، هذا بعيداً عن المخدرات والدعارة، لكن تحول البلاد إلى ساحة جريمة هو ما يثير الحفيظة: (وفــاة طفلين وإصابة ثالث من جراء قيام شخص برمي قنــبلة في قرية المشاهدة بريف حمص).. وإذاعة محلية تقول: (العثور على جثة مجهولة الهوية في حي الزهور بالتضامن في مدينة دمشق بلا رأس وأطراف).. وأما عن أمان الوطن الكبير فتنقل الصحف والمواقع الاخبارية ومحطات التلفزة ما تم إملاؤه عليهم: (سماع دوي انفجارات في مناطق مختلفة من العاصمة دون معرفة مصدرها أو سببها حتى اللحظة).
على أبواب الشتاء القاسي على السوريين في كل مكان، وحيث لا وقود يكفي من عطاءات القيادة، ولا قدرة للمواطن على الشراء من السوق السوداء.. في كل هذا الذعر تنبري الصحافة المأزومة للحديث عن أسعار (المتة) المرتفعة، وضرورة مراقبة المخالفين وتجار الأزمة التي تعصف بمزاج شاربي المنقوع الأخضر: (خلال 11 عاماً المتة ارتفعت 350 ضعفاً.. وأغلب الباعة لم يلتزموا).. ثم لا بد من الهمس في أذن المواطن البردان عن أسعار السجاد الغالية والتي هي آخر همه فما يحتاجه أقل بكثير من هذا البذخ والديباج: (ارتفاع في أسعار السجاد)، أما التفاصيل فتأتي على شكل رسالة تقول للمواطن ابتعد: (حيث وصل السعر إلى 250 ألف ليرة أي إن سعر السجادة 6 أمتار يبلغ نحو 1,5 مليون ليرة وذلك بحسب محال السجاد).
أين ذهب القادرون على العمل من الشباب، ولماذا يقضي السوري أرذل عمره في البحث عن لقمة عيشه؟
آخر العناوين التي توصلك إلى آخر طابق في برج دمشق: (مندوبات مبيعات.. بماذا يتاجرن؟) عنوان مفتوح للتأويل والاتهام وعدم الرحمة، بينما يراه آخرون تحقيقا شفافا عن شبكات لصوص، وفي كلا الحالتين يقول العنوان لا تفتحوا أبوابكم ولا تشتروا ولا تصدقوا.. فيما ما هو أشد قسوة ذلك الاعتراف المذل والقذر بما تحولت إليه البلاد المنكوبة بالجوع والقتل وشهوة الذل: (مسنون يعملون أعمالا شاقة ليؤمّنوا لقمتهم).. وعنوان آخر يستنفذ طاقة مقاومة التمسك بالحياة: (ربع عمال سوريا فوق الـ 50 عاماً).. أين ذهب القادرون على العمل من الشباب، ولماذا يقضي السوري أرذل عمره في البحث عن لقمة عيشه؟
استأنست بإيقاع عنوان رواية خالد خليفة (لا سكاكين في مطبخ هذي المدينة) كي أجد ظل مقاربة بين أشكال الموت لدى السوريين، وفداحة إماتتهم وفق عناوين مفتوحة على الصراع الذي لن تكون نهايته قريبة ما دام هذا الباب مفتوحاً لكل انتهازيي مرحلة ذل ما بعد الخراب.