لم تكن المحاولات الأولى لصناعة نص أياً كان سوى مغامرة تستحق الفعل، وبعد حين لن يشفع لك التبرؤ مما اقترفت يدك، وبأنك مزقت كل ما كتبت وتصرح بذلك على الملأ، وتهمس لقد كانت مجرد مرحلة ساذجة، وأما في الحقيقة فأنا على سبيل المثال ما زلت أحتفظ بالكثير من البدايات بل وأحفظها ويحفظها سواي من باب المتعة والمفاخرة والضحك أحياناً إلا أني لم أفكر على الإطلاق برميها على الأقل بعيداً عني، ومنها ما بقي في مكانه حتى اللحظة مخفياً بانتظار عودتي ذات يوم إلى بيتي الورقي.
اليوم.. الفارق أن شعوري المسيطر هو أنني أكتب بعظامي بعد أن بدأ جسدي يتآكل تحت سطوة المرض المباغت، ولم تعد كتابة مئة كلمة في مقال مجرد هذيان شعوري لا يأخذ منك سوى وقت الكتابة، صار لزاماً أن تنتقل ككائن زاحف ربما يصل إلى حجره أو لا قبل أن يقتنصه مفترس جائع أو حفرة مباغتة، ومن أجل هذا أنتظر لحظة صحو لألتقطها، أو فكرة لم تتآكل بين أسنان المحللين أو الكتبة، وحتى هذه تحتاج إلى حالة إيمان كاملة بها.. فماذا يعني أن تكتب ما يكتبه الآخرون وإن اختلفت اللغة والعبارة، ماذا يعني أن تلوك ما يلوكونه فلتنتظر صورة تخرج من زاوية لم يرها سواك.
ما نحتاجه ليس سوى لغة أكثر تأثيراً في المتابع.. لغة تأخذه إلى أفق آخر بالتعاطي مع الشأن السوري المكرور
في الحالة السورية تتشابه المعطيات على الأرض، ومعها تقلصت مفردات التعبير، وخلال فترة المعاناة تلك ضاق جداً قاموس اللغة، وباتت عبارات مثل الميليشيات وقصف جوي وانفجار لغم وسذاجة الائتلاف وسرقة الثورة ومقتل الناشط الإعلامي وغرق المخيمات ومؤتمر إنقاذ هي السائد الأكبر في العناوين العريضة حتى تلك المحطات الكبرى التي بات الخبر السوري لديها مجرد تذكير بالحدث أو مناكفة دولية، وقد يقول قائل بأن هذه وقائع لا يمكن استبدالها أو تجميلها إلا أن ما نحتاجه ليس سوى لغة أكثر تأثيراً في المتابع.. لغة تأخذه إلى أفق آخر بالتعاطي مع الشأن السوري المكرور.
بالأمس تابعت أحد البرامج بمحض الصدفة كان برنامجاً هادئاً بين معارضين، وكان جوهر الحلقة ينصب على أجرام النظام وداعميه، ولكن بالرغم من هذا الوضوح في العنوان تستطيع أن تلمس شحناء وبغضاء خفية بين الطرفين، وكانت لغة تخوين مضمرة تفوح دون مباشرة، هناك تحميل مباشر للهزيمة والتهاوي لكل طرف، فهناك مهمات لم تنجز، وأفعال كان يجب القيام بها لحماية السوريين العراة، وأن من يدعون اليوم وبالأمس حمايتهم لم يكن سوى نسخة بائسة عن المجرم، وأكثر بل هم اليوم من يتفننون في القتل والتهجير، وهنا لغة جديدة في شيطنة الآخر وليست لغة العودة إلى الأسس التي دفعت الناس للخروج، ولكن لغة لومهم على صراخهم، واعتماد المناطقية والعرقية في التقسيم والولاء.
من كان لديه قصيدة قديمة فليحفظها في مكان آمن، فذات يوم سيجد فيها نفسه التي كانت في كامل بلاهتها وصدقها
على ما بقي اليوم من صحافة حقيقية سورية وهي قليلة أن تبدأ بمراجعات جادة لعناوينها وطريقة تفكير فريقها، والاعتماد على الخبرات لا التفكير بكيفية تقليص المصاريف والاعتماد على محررين صغار برواتب صغيرة، وعلى داعمي تلك الصحافة أن يكونوا جادين في تأسيس مرحلة مختلفة عما مضى حيث كانت الكتابة مجرد عواجل متلاحقة وسلسلة من الأكاذيب وتمرير أفكار الداعم، وأن يمتلك المترددون ممن لديهم إمكانية إحداث التغير إلى الكلام أولاً كأولى خطوات الفعل فالمرحلة مواتية للقفز فوق إرث سنوات التضليل والانتماءات الضيقة.
أستند على عظامي قبل أن يتفاقم ألمها، لأهمس لكم من بين محاولات العودة إلى الحياة الطبيعية من كان لديه قصيدة قديمة فليحفظها في مكان آمن، فذات يوم سيجد فيها نفسه التي كانت في كامل بلاهتها وصدقها.