عاشت تركيا خلال الوجود السوري عدة أزمات مرتبطة بملف اللجوء، حيث تعرض اللاجئون في مناسبات عديدة لاعتداءات مختلفة، تزامنت في مجملها مع استحقاقات انتخابية أو تحالفية على المستوى الحزبي أو السياسي. بالمجمل، كانت على خلفية ارتفاع مستوى خطاب الكراهية تجاه اللاجئين من قبل أحزاب يمنية متطرفة وأحزاب اليسار على رأسها حزب "الشعب الجمهوري" غالبيتها معارضة للتحالف الحكومي، لكن كانت موجة قيصري التي وقعت في حزيران 2024 هي الأكثر عنفاً واستثناءً لأنها امتدت لمناطق جغرافية مختلفة داخل تركيا، كما وصلت آثارها للشمال السوري في مناطق المعارضة وتدخلت بها أطراف حزبية تركية كثيرة وسلطات أمر واقع في سوريا لتعكس هذه الموجة التي تحوّلت لأزمة دفعت الوزارات التركية سواء الداخلية أو الخارجية للتفاعل مع الحدث والتعقيب عليه مما يعكس حجمها وتداعياتها المتداخلة بين الداخلي الحزبي والسياسي والأمني والحقوقي.
مباعث مركّبة خلف أزمة قيصري
تعتبر حملة قيصري هي الأكبر في تركيا تجاه ملف اللجوء السوري في تركيا، حيث تعرض اللاجئون للعنف من قبل مجموعات قامت بمهاجمتهم في أحياء ذات كثافة سُكانيّة بالسوريين، شمل العنف حرق السيارات والتهجم على البيوت والمحال التجارية السورية. دانت كل المؤسسات الحكومية التركية الحادثة ووصفتها بأنها تندرج ضمن نطاق ملف "العنصرية"، كما عبر الرئيس التركي أردوغان خلال تعليق على الحادثة عن إدانته لتلك الأحداث محملاً المعارضة التركية أسبابها، بينما أكدت وزارة الداخلية أنّ نسبة كبيرة من المعتدين لهم سوابق جنائية في تركيا.
كانت موجة قيصري التي وقعت في حزيران 2024 هي الأكثر عنفاً واستثناءً لأنها امتدت لمناطق جغرافية مختلفة داخل تركيا، كما وصلت آثارها للشمال السوري في مناطق المعارضة وتدخلت بها أطراف حزبية تركية كثيرة وسلطات أمر واقع في سوريا
اللافت في الملف أنّه جاء عقب تطورات مهمة في المشهد الحزبي التركي، إذ يمكن تقسيمها لفترتين انطلاقاً من نتائج انتخابات البلدية، الفترة الأولى التي شهدت محاولة المعارضة التركية "تصفير" مشكلاتها مع التحالف الحكومي وانفتاح من قبل الأخير على ذلك عبر زيارة قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمقر حزب "الشعب الجمهوري" الأول منذ عقود، مما خلق حالة من الاستقرار النوعي وذلك على خلفية شعور المعارضة باللا جدوى من استمرار ذات السياسات تجاه الملفات الاقتصادية والأمنية منها اللجوء.
أمّا الفترة الثانية، فهي عودة الاحتقان والاستقطاب ودلالته في الغالب تعود لأسباب ذاتية داخل التحالف الحكومي نفسه بعدما خرجت أصوات تطالب بالتعامل بجدية مع ملف اللجوء والتطبيع مع نظام الأسد لا سيما حزب "الرفاه" الذي لُمس تغيّر خطه السياسي عقب الانتخابات المحلية، وبحدود أقل من قبل الحزب القومي التركي.
لدى قراءة التطورات السياسية الأخيرة في تركيا يلاحظ أن تلك الأحداث تزامنت مع متغيرات عميقة في السياسات التركية تجاه الملف السوري، مع وجود ضغط كبير من قبل المعارضة التركية وأحزابها لإعادة العلاقات مع نظام الأسد والتعامل مع ملف اللجوء بالتعاون مع دمشق ونية رئيس حزب "الشعب الجمهوري" أوزغور أوزيل زيارة بشار الأسد وإقناعه بضرورة المضي بالحل السياسي وإعادة اللاجئين.
تلك الأسباب تجعل محرك القضية "مركّبا" أي أنّه ليست المعارضة التركية وحدها تقف خلف تلك الأحداث التي وقعت في قيصري من حيث ربط الأسباب ببعضها وقياسها، إنما كذلك أطراف مختلفة على صعيد السلوك السياسي والخطاب العام، منها أحزاب تتبع للتحالف الحكومي مثل حزب "الرفاه" الذي وقع في استقطاب شعبوي خلال انتخابات البلدية الماضية وانتهج سلوك أحزاب اليمين مثل نموذج مرشح الفاتح في إسطنبول؛ لم يكن هذا السلوك جديداً بل المتغير هو سلوك الحزب خلال الانتخابات الرئاسية وليس العكس؛ حيث يعرف الحزب بتوجهاته المؤيدة لمعالجة ملف اللجوء من خلال عودة العلاقات مع دمشق. فضلاً عن أنّ محركات القضية الموضوعية هي سياسات اللجوء التي تعتمدها تركيا تجاه السوريين بالتحديد أي "حوكمية" والتي جعلت اللاجئ مواطناً بدرجات متفاوتة لديه حقوق منقوصة مثل: التنقل بين الولايات.
ليست المعارضة التركية وحدها تقف خلف تلك الأحداث التي وقعت في قيصري من حيث ربط الأسباب ببعضها وقياسها، إنما كذلك أطراف مختلفة على صعيد السلوك السياسي والخطاب العام
لا يلغي ذلك أن تمفصلات القضية الأساسية والمستمرة تتجسد في "المعارضة التركية" التي تفاعلت بشكل سريع ومفصّل مع الحدث سواء على مستوى أحزاب اليمين المتطرفة مثل الجيد والنصر أو اليسار كحزب "الشعب الجمهوري"، أكبر أحزاب المعارضة، الذي أصدر وثيقة عقب الأحداث مؤلفة من 10 مبادئ للتعامل مع الملف السوري أهمها كانت المطالبة "إعادة العلاقات مع الأسد" مستثمراً بالأزمة برمتها كمدخل لتحقيق المزيد من الضغط الشعبي والسياسي، مستغلاً وجود أصوات داخل التحالف الحكومي من حزبي الرفاه والقومي لديها مطالب مشابهة. كما عكفت أصوات من شخصيات وأحزاب مختلفة لا تشعر بجدوى تحالفاتها خلال انتخابات الإعادة مثل "سنان أوغان" لاستخدام خطاب وسطي حيث أشار إلى أن السياسات الحكومية في التعامل مع الملف غير مرضية أو كافية.
دوافع سياسية وضرورات التقييم والمعالجة
تكمن حركية المعارضة التركية بأنّها مستمدة من اللا جدوى السياسية بعد ضخ استمر قرابة العقد، خاصة بعد انتخابات البلدية الأولى التي عاصرها السوريون، في ملف اللجوء لأجل الوصول إلى السلطة العام 2024 عبر الانتخابات الرئاسية، في حين تجسّد الرهان والفرضية على الفوضى لأنها قد تخلق فرصًا لإعادة الحضور في الملف في ظل بدء ملامح استقطاب داخل التحالف الحكومي بين التيارات المحافظة والإسلامية والقومية.
بينما من المستبعد أن تتطور الأزمة الأخيرة التي وصلت لذروتها بعدما امتدت لشمالي سوريا وأدت إلى مصرع عدد من الضحايا من جراء اشتباكات بين محتجين والجانب التركي على خلفية رفض أحداث قيصري، لكن التخوّف من تداعياتها السياسية على ملف اللجوء والتطبيع مع الأسد؛ بعيداً عن صوابية التطبيع فالمسار بحد ذاته شديد التعقيد لأن منطلقاته أمنية وليست سياسية كما يريد الأسد وتسعى روسيا. بدورها، استغلت ما يسمّى "الإدارة الذاتية" شمال شرقي سوريا الحدث وأصدرت بياناً يحمل توزاناً غير مسبوق في الخطاب على مستوى الرسائل المحلية على حساب مشروعها الذاتي في محاولة واضحة لتأجيج الصراع أكثر في مناطق المعارضة والاستفادة من متناقضاته.
بالتالي، هذا التداخل وتعدد الأطراف يجعل الملف أكثر تعقيداً أي أنه تحول من خلاصات صراع داخلي تركي في ديناميات حزبية بين الحكومة والمعارضة إلى بعد أمني ممتد للمنطقة تتفاعل معه أطراف تهدد الأمن القومي التركي مما يجعل مستويات التدخل التركي أكثر جديّة وصرامة. بينما، ستجعل متغيرات مناطق المعارضة عقب الحدث المشهد أكثر تعقيداً لأنها وضعت التحالف الحكومي أمام خيارات معقدة بين استحقاق المحليات واستحقاق الأمن على المستوى الجيوسياسي.
من المستبعد أن تتطور الأزمة الأخيرة التي وصلت لذروتها بعدما امتدت لشمالي سوريا وأدت إلى مصرع عدد من الضحايا من جراء اشتباكات بين محتجين والجانب التركي على خلفية رفض أحداث قيصري، لكن التخوّف من تداعياتها السياسية على ملف اللجوء والتطبيع مع الأسد
يحمّل ذلك الأطراف المعنية مسؤوليات معالجة القضية عبر تجزئتها وفصل ملفاتها بين اللجوء والسياسة والأمن "وإعادة ضبط الفوضى" من خلال تطبيق حازم لسياسة "الردع الداخلية" من مدخلات قانونية أي تقديم المعالجة القانونية على تلك السياسية والإنسانية وتطوير قانون الحماية المؤقتة ليوفر أرضية قانونية فيها نوع من المتانة ورفع مستوى الحقوق للاجئين السوريين في تركيا، وملاحقة أصحاب "خطاب الكراهية" بما في ذلك أعضاء أحزاب اليمين المتطرف الذي يعبث في المشهد، وإعادة النظر بجدية بسياسات "العودة الطوعية" التي تزامنت مع أحداث قيصري والشمال السوري بعدما أعلن وزير الداخلية علي يرلي كايا عن حلمة تستهدف "الهجرة غير الشرعية" في الجنوب التركي، لكنها شملت بعض الحالات النظامية مما شكل ارتباكا وعدم استقرار لدى اللاجئين السوريين.
أخيراً، قد يكون من المهم إعادة تقييم السياسات الحوكمية وطبيعة العلاقة مع شمالي سوريا، فالحالة التي برزت مؤخراً تعود لتراكمات عديدة ولا يمكن حصرها فقط بما حصل في قيصري، مما يسهم في تشكيل دوافع إضافية لرفع مستويات أشكال الحوكمة في مناطق المعارضة والتعامل بجدية مع إصلاحات تصب بذات الجانب على مستوى الحكومة المؤقتة والتخلي عن السياسات الأمنية الصارمة لأجل التمهيد لتطوير المجتمع المدني والعمل المؤسساتي في المنطقة؛ لأنها مدخلات مهمة لبدء تحقيق الاستقرار، بينما تعكس التطورات تلك الأهمية القصوى للمواقف السياسية تجاه نظام الأسد ومسار التواصل أو التطبيع؛ من خلال تبني موقفاً سياسياً يخلق توازنات أمنية فضلاً عن أنّه لا يترك انطباعات سياسية تشكّل حالة اضطراب وفوضى وشعور بالتهديد، لأنه أصبح من الواضح أكثر من أي وقت مضى أن التطبيع مع الأسد سيخلق تحديات أمنية كبيرة، منها موجات فوضى وربما لجوء غير مسبوق بجانب أنه قد يضع المكاسب السياسية والأمنية في دائرة التهديد.