كانت غالية قد بدأت دراستها للتوّ في مجال الكيمياء والتقانة الحيوية في الجامعة التقنية بالدنمارك عندما استدعتها وزارة الهجرة الدنماركية إلى مقابلة.
وبعد مرور خمس ساعات، سأل موظفو الهجرة عن كفاءتها في اللغة الدنماركية، والتي تتحدثها غالية بطلاقة، ثم سألوها عن مدى اندماجها في الدنمارك، تلك الدولة التي تعيش فيها غالية مع أسرتها منذ عام 2015 بعد هروبهم من سوريا.
وخلال تلك المقابلة التي جرت في شهر شباط الماضي، أخبرها موظفو الهجرة بأن الوضع الأمني في مدينتها الأم، أي دمشق، قد تحسن، وبأن عودتها إلى سوريا باتت آمنة، وذلك بحسب ما روته لنا غالية في مقابلة أجريناها معها عبر الهاتف خلال الأسبوع الماضي.
وبذلك أخذت غالية التي تبلغ من العمر 27 عاماً تفقد حقها بالعيش في الدنمارك، حتى لو كان بوسع أشقائها الأربعة ووالديها أن يقيما في تلك الدولة، ولم يعد أمامها أي مكان بوسعها المضي إليه.
ومنذ أن أعلنت وزارة الهجرة الدنماركية في عام 2019 بأنها تعدّ دمشق وما حولها مناطق آمنة، أخذ العاملون في تلك الوزارة بمراجعة أذونات الإقامة التي منحت لـ1250 سوريا تركوا بلادهم خلال الحرب التي قامت فيها، تماماً كما فعلت غالية. واليوم بدأت السلطات بإلغاء أو الامتناع عن تجديد إذن الإقامة لأكثر من 250 سوريا من هؤلاء.
وعبر قيامها بذلك، أصبحت الدنمارك أول دولة بين دول الاتحاد الأوروبي تحرم اللاجئين السوريين من وضع اللجوء، حتى في الوقت الذي بقيت فيه سوريا مدمرة. فقد وصف الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة معظم المناطق في سوريا بأنها غير مستقرة بما فيه الكفاية حتى تعدّ آمنة بالنسبة لعودة اللاجئين.
ومن بين من طلب منهم مغادرة البلاد طلاب في الثانويات وفي الجامعات، وسائقو شاحنات، وموظفون في المعامل، وأصحاب متاجر، ومتطوعون في منظمات غير حكومية، حيث يتعرض هؤلاء جميعاً لخطر اقتلاعهم من البلاد التي شقوا لأنفسهم طريقاً جديدة فيها من أجل حياة أخرى غير التي تركوها في بلدهم.
وعن ذلك الإجراء تحدثنا أسماء الناطور، 50 عاماً، فتقول: "أحسست وكأن وزارة الهجرة الدنماركية قد قصفت حلمي كما قصف بشار الأسد بيوتنا. غير أن القصف أتى نفسياً هذه المرة".
فقد حدثتنا السيدة أسماء من مدينة رينغستيد التي تبعد 48 كلم عن كوبنهاجن من جهة الجنوب الغربي، حيث تقيم هي وزوجها هناك أنها في شهر شباط الماضي، أبلغت هي وزوجها عن احتمال عدم تجديد إقامتيهما، في حين أن ولديهما الذين يبلغ أحدهما 20 عاماً والآخر 22 عاماً بوسعهما البقاء في تلك البلاد، حيث منح الابنان حق اللجوء لأنهما لا بد أن يتعرضا للاضطهاد في سوريا حال عودتهما.
استهداف المهاجرين والأقليات
يذكر أن معظم السوريين البالغ عددهم 34 ألفاً ممن حصلوا على إقامات في الدنمارك منذ أن بدأت الحرب في بلادهم في عام 2011، لم تتم مراجعة أوراق إقامتهم والنظر في أمرها مجدداً، إلا أن هذه الخطوة التي تقوم على إسقاط الوضع القانوني عن المئات منهم أتت ضمن سلسلة من الإجراءات التي اتخذتها الدنمارك والتي اعتبرتها منظمات حقوقية تستهدف المهاجرين والأقليات في تلك البلاد.
فقد فرضت السلطات الدنماركية تعليمات إجبارية حول القيم الدنماركية التي تخص الأطفال الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة ذات الغالبية المسلمة التي تصفها الحكومة الدنماركية بأنها أشبه بأحياء اليهود المعزولة، كما قامت بمضاعفة العقوبات على بعض الجرائم التي ترتكب في تلك المناطق.
وعمدت السلطات الدنماركية إلى تعديل الجهاز القانوني للدولة المخصص للهجرة، حيث تم تغييره من الاندماج إلى العودة السريعة للاجئين إلى أوطانهم. وبذلك خسر المئات من اللاجئين الصوماليين إقاماتهم بعدما اعتبرت الدنمارك عودة الصوماليين إلى بلادهم آمنة.
وعن ذلك يحدثنا الأستاذ المساعد بير موريتسين المتخصص بالعلوم السياسية لدى جامعة آرهوز فيقول بأن الحكومة قد شددت من موقفها حيال الهجرة خلال السنوات الماضية حتى لا تخسر في الانتخابات أمام اليمين، وهذه معضلة واجهتها كثير من الأحزاب من يسار الوسط في مختلف نواحي أوروبا.
ويتابع السيد موريتسين بالقول: "إذن فالطريقة الوحيدة لهزيمة اليمين في الدنمارك هي أن تبيع ضميرك للشيطان وأن تتشدد حيال الهجرة لتحصل على تأييد ودعم مقابل السياسات التي تسعى لتحقيق الرفاه الاجتماعي".
يذكر أنه خلال العام الماضي تجاوز عدد اللاجئين الذين غادروا الدنمارك عدد الواصلين إليها من المهاجرين، وقد تعهد رئيس الوزراء الدنماركي، ميتي فريدريكسين بالمضي قدماً، وذلك عندما أعلن بأن الدنمارك تسعى لأن يصبح عدد طالبي اللجوء فيها صفراً.
"حقيبة سفر كبيرة مملوءة بالمال"
ولشرح الخطوات التي تضرر بسببها السوريون، ذكر وزير الهجرة الدنماركي، ماتياس تيسفايي بأن الدنمارك كانت: "صادقة منذ اليوم الأول" معهم.
ويتابع شرحه بالقول: "لقد أوضحنا للاجئين السوريين بأن إذن الإقامة الذي يحملونه مؤقت"
أما بالنسبة لمن يرغبون بالعودة إلى سوريا، فقد ذكر السيد تيسفايي بأن الدنمارك يمكن أن تقدم لهم: "حقيبة سفر كبيرة مملوءة بالمال"، في حين أعلنت السلطات الدنماركية بأن المئات منهم قرروا العودة بشكل طوعي.
أما ميكالا بينديكسين، وهي المنسقة الإقليمية للترحيب باللاجئين بالدنمارك وهي منظمة غير ربحية فقد ذكرت بأن هذه السياسة تهدد بتفريق شمل العائلات السورية، وذلك حينما قالت: "إن الهدف الوحيد من كل هذا هو جعل الدنمارك المكان الأخير الذي يمكن لطالب اللجوء أن يختاره".
وبما أن الحكومة الدنماركية قد قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع نظام الأسد، لذا لا تستطيع السلطات أن تقوم بترحيل اللاجئين قسرياً، ونظراً إلى أن معظمهم لا يرغب بالعودة بشكل طوعي، لذا من المرجح أن يتم إرسال من خسروا في الطعون التي قدموها بعد إلغاء إقامتهم إلى مراكز مخصصة للترحيل.
بيد أن السلطات الدنماركية لم ترد على الأسئلة التي طرحناها عليها حول سبب تطبيق هذه السياسة على السوريين، وكم عدد من تم إرسالهم إلى مراكز الترحيل، حيث ينتظرون هناك دورهم لشهور وشهور.
وعن ذلك تحدثنا شارلوت سلينتي، وهي الأمين العام للمجلس الدنماركي للاجئين فتقول: "يتعرض الناس هنا إلى خطر البقاء إلى أجل غير مسمى، إذ ليست هنالك أية توقعات حول إرسالهم بشكل قسري، كما لا توجد أمامهم أية فرصة ليعيشوا حياتهم في الدنمارك أيضاً".
يبدو أن هذا هو المصير الذي ينتظر غالية التي تم إخطارها في الشهر الماضي بأنها قد يطلب منها الرحيل من الدنمارك في حال خسرت الطعن في الحكم خلال هذا العام.
كانت غالية آخر من غادر سوريا من أسرتها في أواخر عام 2015، ثم حصلت على إقامة بعد أشهر من وصول والديها وأشقائها إلى الدنمارك. ونظراً لأنها لم تكن قاصراً حينذاك، لذا لم يكن بوسعها أن تقدم طلب لجوء عبر لم الشمل بل كان عليها أن تقدم طلب لجوء خاص بها.
وفي الوقت الذي يحتمل فيه تعرض أشقائها لخطر التجنيد الإجباري ضمن صفوف قوات النظام، تم استدعاء غالية من بين جميع أفراد أسرتها من أجل مقابلة مع وزارة الهجرة الدنماركية.
وعن تجربتها تخبرنا غالية بالآتي: "إنني أسعى جهدي لأتأقلم ولأقدم للمجتمع الدنماركي عبر تثقيف نفسي ودفع الضرائب التي تترتب علي". وأضافت بأن أسرتها لم تترك شيئاً في سوريا، وبأنها ترى مستقبلها في الدنمارك فقط، ولكن: "الوصمة التي تحيط باللاجئين، خاصة المسلمين منهم، أصبحت موجعة للغاية".
ثم إن سوريا ما تزال مدمرة، مع انهيار الاقتصاد فيها ونزوح نصف شعبها، ناهيك عن استعادة الأسد للسيطرة على ثلثي البلاد، لتشمل سيطرته منطقة دمشق، وهذا ما دفعه لمطالبة السوريين بالعودة، غير أن غالبية السوريين أعربت عن عدم رغبتها بالعودة، لسبب وحيد، ألا وهو وجود الأسد بحد ذاته.
وحول هذا الموضوع يحدثنا حسام الخولي، وهو طالب في الثانوية في العشرين من عمره وعامل في مستودع يعيش في كولدينغ بالمنطقة الغربية من الدنمارك، فيقول: "طالما أن سوريا ليست آمنة، والأسد مايزال فيها، فلا نريد العودة".
بيد أن حسام الذي تعود أصوله لدمشق أبلغ في شهر شباط الماضي بأن إقامته في الدنمارك لن يتم تجديدها، وكذلك الأمر بالنسبة لإقامة والديه وشقيقتيه.
وبالنسبة لذلك الإجراء، أوردت منظمات حقوقية العديد من المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها اللاجئون عند عودتهم، وتشمل التجنيد الإجباري بالنسبة للرجال، والاعتقال بناء على الشبهة التي تقول بأن كل من وقف بجانب الثوار وحاول أن يسقط الأسد ما هو إلا خائن.
ثم إن مئات العائدين اختفوا بعد عودتهم بحسب ما ذكرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان، والتي حذرت من أن العائدين طوعياً يمكن أن يتعرضوا لخطر الاعتقال والتعذيب والموت.
وعلى ذلك تعلق السيدة شارلوت من المجلس الدنماركي للاجئين فتقول: "إن اختفاء القتال في بعض المناطق لا يعني أنه بات بوسع الناس العودة إليها بأمان".
أما غالية الطالبة المتخصصة في الكيمياء والتقانة الحيوية فتخبرنا بأنها حاولت أن تركز في دراستها منذ أن علمت بأن إقامتها يمكن أن تلغى، إلا أن فكرة البدء من جديد مرة أخرى صارت ترعبها، وهذا ما عبرت عنه بالقول: "لا أمثل أي خطر، فأنا لست مجرمة، وكل ما أريده هو أن أعيش هنا".
المصدر: نيويورك تايمز