icon
التغطية الحية

أبو الهدى الصيادي: من درويش خان شيخون إلى مستشار السلطان عبد الحميد وعدو هرتزل

2023.02.04 | 17:12 دمشق

الصيادي
صورة معالجة لأبي الهدى الصيادي
أحمد طلب الناصر - تلفزيون سوريا
+A
حجم الخط
-A

بمحاذاة مسجد الصحابي الجليل "أبي أيوب الأنصاري" في منطقة "أيوب سلطان" وسط إسطنبول، يتربع مبنى عثماني الطراز تعلوه قبّة، فيظن الناظر أنه جزء من مسجد أبي أيوب. إلا أن ذلك المبنى هو "المكتبة الصيادية الرفاعية" التي أنشأها في العام 1895 أبو الهدى الصيادي.

 

صيادي
حجر باب المكتبة الذي يوثّق ملكيتها وتاريخ بنائها، ويظهر عليه اسم أبي الهدى الصيادي

داخل ذلك البناء سنرى ثلاثة قبور لأشخاص من عائلة الصيادي، وهم (وفق ما ورد على الشاهدة):

السيد محمد نور الدين، شقيق أبي الهدى الصيادي- 1895.

السيدة نورية ملك، من السلالة الصيادية الرفاعية- 1897.

السيد أحمد سراج الدين، من السلالة الصيادية الرفاعية- 1899.

إلا أننا لن نشاهد إلى جوار تلك الأضرحة قبراً لصاحب تلك المكتبة العريقة، وكبير الأسرة "الصيادية"، الذي كان ذات يوم من أشهر شخصيات العصر، ليس في إسطنبول فحسب بل في مختلف أراضي الدولة العثمانية، قبل أن يُهمل اسمه ويتعرّض للكثير من الطعن والتشكيك ومحاولات الطمس.

صيادي
أضرحة أقارب الصيادي

ويكاد يكون أبو الهدى الصيادي (1849- 1909) من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في مختلف جوانب حياته؛ بنسبه وحسبه، وبطريقة تصوّفه، وبكرمه وأريحيته وتواضعه، وبدهائه وذكائه وطموحه، وبعلاقاته الودية وغير الودية مع معاصريه، بل وبالاختلاف حول تقييمه أيضاً. وذلك خلال حكم السلطان عبد الحميد الثاني للدولة العثمانية في الفترة ما بين (1876- 1909).

وعلى الرغم من اختلاف مشارب وتوجهات أصحاب الشهادات والتقييم مع أبي الهدى الصيادي، وطعن بعضهم في صدقه ونزاهته وأخلاقه، إلا أنهم يتفقون جميعاً في امتلاكه الفطنة والحنكة والذكاء والفصاحة، والتواضع والظرف أيضاً.

الأصل والنشأة

ولد محمد بن حسن وادي بن علي بن خزام الصيادي الرفاعي الحسيني الملقّب بـ "أبي الهدى الصيادي" في خان شيخون عام 1849، وكانت حينذاك تتبع لأعمال معرة النعمان في ولاية حلب العثمانية.

وتُظهر السيرة الشخصية للصيادي والتي خصص لها كتاباً من كتبه، أنه ينتمي لـ "أحمد الصياد" أحد الأولياء المحليين ومن مشايخ الطريقة الرفاعية المشهورين الذين ذاع صيتهم في مطلع القرن الـ14 الميلادي، وقد خُصص له مزار يضم ضريحه بالقرب من قرية "ماتكين" القريبة من خان شيخون. كما وأن أحمد الصياد هو حفيد الشيخ الرفاعي من طرف ابنته زينب والدة "صياد".

سافر أبو الهدى وهو في سن الـ16 من العمر (1866) إلى بغداد لتلقّي العلم، ثم عاد بعدها وتلقى العلم الشرعي في جسر الشغور، لينتقل لاحقاً إلى "الزاوية الإخلاصية" الواقعة في حي البياضة بحلب. ثم سافر بعدها إلى إسطنبول.

وفي إسطنبول، التقى أبو الهدى بالوجيه الحلبي "عبد القادر أفندي القدسي" الذي عرّفه بدوره على السلطان عبد الحميد قبل أن يتولى السلطنة (في زمن السلطان عبد العزيز) فقربه منه.

من "الدروشة" إلى كبير المشايخ والقضاة

نشأ أبو الهدى إلى جانب والده "الدرويش" المتصوّف على الطريقة الرفاعية، وغدا يرافقه في الموالد والحضرات الدينية الصوفية المنتشرة في قرى وبلدات منطقتهم. وتذكر بعض المصادر أيضاً أنه استقدم والده إلى إسطنبول بعد إقامته فيها.

ازدهرت الطريقة الرفاعية بعد إقامة أبي الهدى في إسطنبول، لدرجة أن السلطان عبد الحميد ابتاع للقطب الرفاعي تكية على نفقته الخاصة، وسلك الطريقة الرفاعية، وفتح أبوابه لرجالها وللمنتسبين إلى الرفاعي، فتهافت الناس عليه بشدّة. كما أن الصيادي ألّف العديد من الكتب عن الطريقة الرفاعية، نذكر منها:

 قلائد الزبرجد على حِكَم الغوث الشريف الرفاعي أحمد.

 قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر.

 تنوير الأبصار في طبقات السادة الرفاعية الأخيار.

 هداية الساعي في سلوك طريقة الغوث الرفاعي.

 الفجر المنير فيما ورد عن لسان الغوث الرفاعي الكبير.

بالإضافة إلى أكثر من 40 كتاباً ورسالة تناول فيها العديد من المسائل الدينية والفقهية والسياسية أيضاً، عدا عن دواوينه ومجموعاته الشعرية.

في عام 1872، عُيّن الصيادي "نقيب أشراف" جسر الشغور (نظراً لنسب الرفاعي الذي يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم) بعد انتسابه لهيئة علماء إزمير، وأصبح نائباً عن جسر الشغور أيضاً. وبعد وفاة الشيخ بهاء الدين الرفاعي مفتي الحنفية بحلب عام 1873، عُين أبو الهدى نقيب الأشراف فيها. وفي عام 1875 منحه السلطان عبد العزيز راتباً خاصاً بالإضافة إلى راتبه كنقيب أشراف حلب. ولم يلبث عبد العزيز أن يمنحه منصب نقيب أشراف كامل سوريا مع ديار بكر وبغداد والبصرة.

بعد عزل السلطان عبد العزيز واعتلاء السلطان عبد الحميد عرش السلطنة العثمانية (1876)، مُنح الصيادي مرتبة "الحرمين" وهي إحدى المراتب العليا في هيئة العلماء. وفي أواخر ذلك العام سافر أبو الهدى مجدداً إلى إسطنبول والتقى بالسلطان الجديد الذي استقبله بحفاوة وطلب الاجتماع به مرة أو مرتين في الأسبوع ثم منحه بعد وقت قصير منصب "شيخ مشايخ" إسطنبول، ولاحقاً منصب "قاضي عسكر الاناضول"، ثم مُنح في عام 1885 رتبة "قاضي عسكر روملي" وهي أعلى رتبة في فئة العلماء.

بقي الصيادي ملازماً للسلطان ومستشاره الأول في قصر "يلدز" حتى عزله على يد الاتحاديين الأتراك (حزب الاتحاد والترقّي) الذين أنهوا عصر السلطنة العثمانية فيما بعد.

ومع خلع السلطان عبد الحميد (نيسان 1909)، كان من الطبيعي أن يمتد انتقام الاتحاديين إلى أبي الهدى، صاحب المكانة الكبيرة ومستشار السلطان، فقادوه إلى السجن وهو مريض وأهانوه وعذبوه ثم نفوه إلى جزر الأميرات، ليتوفى بُعيد أيام قليلة من الانقلاب.

احتفل بدفن الصيادي احتفالاً كبيراً ودفن جثمانه في تكيته التي ابتاعها له عبد الحميد في منطقة "بشكتاش" بقلب إسطنبول والقريبة من قصر يلدز، ثم نقل جثمانه إلى حلب في عام 1936 بعد أن تعرضت التكية للهدم، ودفن في الزاوية الصيادية تحت قلعة المدينة. وكان أبو الهدى نفسه هو من أقامها حين كان بمنصب "نقيب الأشراف" في حلب، وخصصها لوالده الشيخ "حسن وادي" في العام 1878.

ذكره خير الدين الزركلي في "كتاب الأعلام" بالقول إنه "من أشهر علماء الدين في عصره. قلده السلطان عبد الحميد منصب شيخ المشايخ، وحظي عنده فكان من كبار ثقاته، واستمر في خدمته زهاء ثلاثين سنة. كان من أذكى الناس، وله إلمام بالعلوم الإسلامية، ومعرفة بالأدب، وظرف وتصوف".

وتتحدث ابنة السلطان عبد الحميد الثاني "الأميرة عائشة" في كتاب مذكّراتها عن أبي الهدى الصيادي فتقول: "أما عن أبي الهدى أفندي، فإنه كان منسوباً هو الآخر لنفس الطريقة (الصوفية) مع والدي، وكان يعلّم والدي أنه رجل ذكي، ولذلك كان يستخدمه في الأمور السياسية الخاصة بمسائل العرب.

وكان قد دعاه إلى إسطنبول أثناء ثورة اليمن ورؤساء القبائل، وعندها أمر بوضع كرسي العرش أمام دائرة (المابين) الصغيرة واستقبل فيها هؤلاء الرؤساء، وكانوا ما يقرب من مئة رجل، فدخلوا جميعاً بالترتيب بملابسهم المتباينة الألوان، وانكفؤوا على يدي والدي وقدميه وأقسموا له قائلين: يا خليفة رسول الله سوف نظل على إخلاصنا لك. وصاحوا جميعاً: الله ينصر السلطان. ثم ظهر أبو الهدى أفندي بملابسه الموشاة، وألقى فيهم خطبة باللغة العربية باسم والدي، وكنا نحن أيضاً نشهد هذا الاستقبال من نوافذ الحريم.

وقد مكث بعض كبار هؤلاء الرجال ضيوفاً على أبي الهدى في بيته، وأقام الباقون في دار الضيافة التي شيدها الوالد في تكية ظافر أفندي. والضيوف من أمثال هؤلاء كانوا يقيمون في هذين المكانين، وعند إقامة مراسم تحية الجمعة يأتون الجامع فيؤدون الصلاة، ثم يأخذون عطاياهم بواسطة أبي الهدى أفندي ويعودون إلى بلادهم، وكانت هناك أقوال تَدَّعِي أن أبا الهدى هو كبير جهاز الاستخبارات (الجورنالجية) لدى والدي، ويجب علينا أن لا ننسى أن لكل عصر شكلاً للإدارة يتميز به".

ويصف أعداء السلطان عبد الحميد بأنه كان حاكماً استبدادياً ظالماً، في حين يراه مناصروه وبعض الشخصيات التي عايشته عن قرب بأنه كان على خلاف ذلك تماماً، وبأن حزمه في بعض الأمور والتزامه بتطبيق أحكام الشريعة والدين كانا سبباً في تكوين تلك الصورة عنه.

بينما يُعبّر إحسان حقي عن تلك الحالة في كتابه "تاريخ الدولة العلية العثمانية" بالقول إن "عبد الحميد لم يكن ملكاً ديموقراطياً مثل ملك إنكلترا أو السويد مثلاً، بل كان ملكاً أوتوقراطياً يملك ويحكم، وإذا كان قد ظهر منه شيء من الاستبداد فذلك شيمة الملوك في ذلك الزمان". (ص741).

فلسطين.. عقدة السلطنة وبيضة القبّان

 منذ ثمانينيات القرن الـ19 نشطت محاولات المطالبة بإنشاء دولة لليهود المتشتتين في أنحاء العالم في فلسطين. وكانت أول محاولاتهم في عام 1876 إذ عرض "حاييم كوديلا" على السلطان شراء مساحات من الأراضي في فلسطين لإسكان المهاجرين اليهود فيها إلا أنه رفض عرضه. واستعان اليهود الروس بالسفير الأميركي في إسطنبول أيضاً ولم ينجح بذلك.

لم تنقطع الهجرات الفردية والجماعية التي بين أعوام (1868– 1896) وكانت الأكثر فعالية بين عامي (1882- 1896). وفي تلك الأثناء، عرض مؤسس الحركة الصهيونية  تيودور هرتزل على السلطان دفع كل ديون السلطنة الخارجية مقابل تقديم فلسطين لليهود ليقيموا عليها دولة لهم، إلا أن السلطان رفض بحزم مطلقاً عبارته الشهيرة التي أكّدها هرتزل في مذكراته: "لا أقدر أن أبيع ولو قدماً واحداً من البلاد، لأنها ليست لي بل لشعبي. لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم وسقوها فيما بعد بدمائهم، وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح باغتصابها منا. لقد حاربت كتيبتان من جيشنا في سوريا وفي فلسطين وقتل رجالنا الواحد بعد الآخر لأن أحداً منهم لم يرض بالتسليم، وفضلوا أن يموتوا في ساحة القتال...".

حاول هرتزل كثيراً إقناع السلطان عبد الحميد، فاستغل (القضية الأرمنية) وعرض عليه بذل الجهود من أجل تسوية المشكلة ولقيت فكرته ترحيباً من السلطان، وعهد إليه وإلى صديقه الصحفي النمساوي "نيولنسكي" الذي تربطه علاقة جيدة بعبد الحميد، بمطالبة لجان الأرمن في أوروبا بالطاعة لأن السلطان سيحقق مطالبهم التي رفض تحقيقها تحت الضغوطات.

وبذل هرتزل ونيولنسكي جهودهما في أقناع الأرمن والطلب من بريطانيا لوقف تحركاتهم، إلا أنهم فشلوا فيما يسعون إليه. عندها قرر هرتزل السفر إلى إسطنبول ولقاء السلطان، إلا أنه لم يتمكن من ذلك وتركها بعد عشرة أيام في 1896، وبعد نحو شهرين اتصل بالأوساط العثمانية محاولاً إعطاء الدولة مساعدات مالية وغيرها، فقوبل بالرفض أيضاً.

لم يدّخر هرتزل أي جهد في التواصل مع زعماء ألمانيا والنمسا والروس وغيرهم للضغط على عبد الحميد، كما اتّبع أسلوب الرُشى مع مختلف رجالات وقادة العثمانيين، حتى انه قدّم الرشى لخدم قصر السلطان في اثناء زيارته له! بحسب ما ورد في كتاب "يوميات هرتزل" الذي جمعه وقدّمه أنيس صايغ (ص29). ناهيك عن استغلال الصحف التي كانت تصدر في أرجاء الولايات العثمانية وخارجها، وتحريض أصحابها للكتابة ضد السلطان.

بين "الجامعة الإسلامية" و"القومية العربية" و"الخلافة العربية"

بالإضافة إلى ما سبق من محاولات شراء فلسطين، شهدت فترة سلطنة عبد الحميد بروز فكرتين في العالم العربي كردة فعل ضد الاستعمار والسيطرة الأجنبية، إحداهما فكرة "الجامعة الإسلامية"، والثانية "القومية/ الوحدة العربية" التي انتشرت في البلدان العربية وخاصة في بلاد الشام. وعندما أصبح العالم الإسلامي هدفاً للدول الاستعمارية، استيقظت فكرة إحياء الوحدة الإسلامية لتوحيد الجهود ضد هذه الدول. فتزعم السلطان عبد الحميد إبان حكمه هذه السياسة نظراً للظروف الداخلية والخارجية، ولأنه رأى فيها الحل لمواجهة المشروع الصهيوني.

ولتنفيذ فكرته، اعتمد السلطان على "نامق كمال" ضمن البيئة العثمانية، وعلى جمال الدين الأفغاني في البيئة الإسلامية والعربية. ففي الداخل (العثماني) كان تنفيذ مبادئ الحركة يعني الالتزام بحدود الشريعة الإسلامية، وفي الخارج يعني التفاف المسلمين حول الخلافة.

وبعد أن بدأ بتطبيق حركة "الجامعة الإسلامية" استطاع عبد الحميد أن يحتفظ بولاء الأقوام غير التركية في الدولة، وكسب جميع المسلمين إلى جانبه. وللمحافظة على ما تبقى من الأقاليم العربية بعد ضياع تونس ومصر أخذ يقرب عدداً من الشخصيات العربية المؤثرة، وكان أبرزهم عزت باشا العابد وأبو الهدى الصيادي، بالإضافة لآخرين غيرهم. كما شكّل فرقة عسكرية أدخلها في حرسه الخاص، واهتم بالمقدسات الإسلامية الثلاث (في مكة والمدينة والقدس) وخصص لها الأموال، وعمد إلى مصاهرة العرب فزوج أميرتين من آل عثمان بشابين عربيين.

ولإظهار الاهتمام بالعلم والعلماء، تمت دعوة جمال الدين الأفغاني إلى إسطنبول، في محاولة منه أيضاً للتقريب بين المذاهب الإسلامية.

بالإضافة إلى ذلك، أدخل السلطان اللغة العربية ضمن برامج الدروس في المعاهد وحاول جعلها مساوية للّغة التركية الرسمية للدولة. ولعل من أهم منجزاته لدعم حركة الجامعة الإسلامية كان مشروع خط حديد الحجاز.

أبو الهدى الصيادي.. وحيداً في قلب العاصفة

لاقت حركة الجامعة الإسلامية نجاحاً نسبياً، وانتشر صداها في العالم الإسلامي والعالم العربي. في المقابل، برزت دعوات رافضة لحركة الجامعة الإسلامية كفكرة دينية في العالم العربي وتركيا وأوروبا، سواء بين أوساط دعاة القومية العربية في العالم العربي، أو لدى أتباع "الحركة/ القومية الطورانية" في تركيا، أو في أوروبا التي عملت على تشويه صورة السلطان أمام رعاياها المسلمين بوصفه حاكماً استبدادياً.

كما لعب عبد الرحمن الكواكبي الذي كان أحد رواد الحركة الإسلامية، دوراً في تغيير مسار حركة السلطان عبد الحميد، حيث أراد الكواكبي أن تكون الخلافة عربية وفي قريش ومركزها مكة المكرمة وإبعادها عن آل عثمان.

 ذلك بالنسبة للرافضين من خارج الحركة، أما فيما يتعلّق بالأطراف الذين اعتمد عليهم السلطان عبد الحميد لإتمام الحركة؛ وفي مقدمتهم جمال الدين الأفغاني وعزت باشا العابد وأبو الهدى الصيادي، فقد برزت تطورات كان لها الأثر الشديد في قلب حسابات عبد الحميد حول الجامعة، بل وربما في رسم مصيره أيضاً في نهاية المطاف:

أولاً: عزت باشا بن هولو العابد (1855- 1924) السياسي ورجل الدولة الدمشقي، كان مستشاراً للسلطان عبد الحميد إلى جانب أبي الهدى الصيادي، وعضواً في مجلس شورى الدولة العثمانية حتى عام 1908. وهو والد أول رئيس جمهورية في سورية محمد علي العابد (1932 خلال الانتداب الفرنسي).

وعلى الرغم من الصداقة المتينة التي ربطته بالسلطان، ونشاطه الكبير في إنجاز خطوات "الجامعة العربية" من إشراف على مد الخط الحديدي بين دمشق والحجاز، وعلى قوافل الحج الشامي، ودوره في مد خطوط التلغراف بين إزمير وبنغازي وبين دمشق والمدينة المنور... وغيرها من الإنجازات؛ إلا أن مذكرات هرتزل تشير إلى موقف مغاير إزاء قضية فلسطين والوطن القومي لليهود!

فقد ورد على لسان هرتزل في يومياته (ص 383): "كانت نصيحة عزت بك أن يشتري اليهود أي مقاطعة أخرى ويقدمونها للسلطان كبديل لفلسطين مع مزيد من المال، ففكرت رأساً بقبرص. إن فكرة عزت جيدة، وتبين أن الرجل يفكر بنا ومن أجلنا".

ثانياً: جمال الدين الأفغاني (1838 – 1897). اتسمت علاقة الصيادي مع الأفغاني في بادئ الأمر بالود، لكنها انقلبت إلى عداوة سافرة بعد أن سعى بعض الناس بالنميمة بينهما.

ويذكر الكاتب حسن السّماحي سويدان في كتابه "أبو الهدى الصيادي في آثار معاصريه" أن الصيادي اكتشف بعض الحقائق عن الأفغاني، وأهمها أنه إيراني شيعي، ولد في أسد أباد ودرس في أصفهان، ثم في النجف، ثم طرد من النجف لاتهامه بالزندقة، وله صلات بالبهائية، لا كما كان يدّعي أنه أفغاني ولد في أسعد أباد، وبأنه سني حنفي.

كما تبيّن أيضاً أن الأفغاني انتسب في عام 1876 إلى المحفل الماسوني "نجم الشرق" (كوكب الشرق) في مصر، والذي أصبح المحفل الأنجلو- سكسوني الكبير. وبذلك أصبح الأفغاني خارج ثقة السلطان عبد الحميد، بل أصبح في قائمة الأعداء أيضاً. ووصلت القطيعة إلى أوجها بعد مقتل شاه إيران (1896) واتهام الأفغاني بالضلوع في عملية اغتياله، حيث تقرّر حبسه داخل قصره في حيّ "نيشانتاشي" بإسطنبول وتشديد المراقبة عليه.

أفغاني
طلب انتساب الأفغاني للمحفل الماسوني

ثالثاً: أما الصيادي، فقد صبّ كل إمكاناته الدينية والعلمية والأدبية في خدمة السلطان عبد الحميد ومشروعه (الجامعة الإسلامية) على أمل إعادة مجد الإمبراطورية العثمانية والتصدي لمشروع (هرتزل) الذي بات يقضّ مضجع عبد الحميد والعرش العثماني والجغرافيا الإسلامية بأكملها.

كما ركز الصيادي على الدعوة إلى "وجوب طاعة أمير المؤمنين خليفة المسلمين، وأن طاعته من طاعة رب العالمين، والخروج عليه من الخروج عن الدين..." (وفق ما أورد الصيادي في كتابه "ذخيرة المعاد في ذكر السادة بني الصياد"- ص69-70). كما دعا للالتفاف حول السلطان عبد الحميد "لتبقى راية الدولة والإسلام عالية"، وألف أبو الهدى العديد من الكتب الأخرى التي مجّد فيها السلطان.

تلك الأسباب مجتمعة، بالإضافة أيضاً إلى العداء بينه (كصاحب طريقة صوفية وموالٍ شديد للسلطان- العثماني) وبين الحركة الوهابية (السلفية- العربية) التي كانت تستعيد قوتها مجدداً؛ لعلها ساهمت في تشويه صورة أبي الهدى والطعن في سيرته وبنسبه وحسبه وسلوكه وعلمه من قبل العديد من الكُتاب والمفكرين العرب في ذلك الزمن وما تلاه أيضاً، من أمثال: محمد كرد علي– الزهاوي- إبراهيم المويلحي- جمال الدين الأفغاني- محمد عبده- رشيد رضا... وآخرين غيرهم.

ومما قاله محمد كرد علي في طعنه للصيادي: "ما كان في الواقع غير رجل وصل إلى ما وصل إليه بمواهبه وخداعه وما كان لنغمة الإصلاح مكان في نفسه، ولا لتوسيد أعمال الدولة للكفاة شأن عنده، بل كان هواه في تكثير عدد أنصاره وإرضاء المرتزقة الذين تأدبوا في كل زمان أن يعيشوا على عاتق الملة حَلمَة طفيلية تمتص الدم وتعرق العظم. والمصلحون أفراد في كل أمة، وأبو الهدى ما ادعى أنه منهم".

كما طعن كثيرون بصحة نسب أبي الهدى إلى الرفاعي وآل البيت. وشكك آخرون بالكتب التي حملت اسمه، واتهموه بانتحالها أو بتكليف بعض تلاميذه ومريديه بتأليفها ونسبها له.

وعلى الرغم من مؤازرته ومساعدته لكل من قصده من أبناء البلاد العربية، وحمايته له من خلال نفوذه وحظوته لدى السلطان، ومن بين أولئك (على سبيل المثال): معروف الرصافي والزهاوي وإبراهيم المويلحي، واستضافته لإبراهيم هنانو في الأستانة عندما ذهب إليها بقصد الدراسة؛ إلأ أن ذلك لم يشفع له وإنما ألّب عليه دعاة فكرة القومية العربية والعربية الإسلامية التي بدأت تتنامى داخل أوساط العنصر العربي، والتي حظيت -إلى جانب الاتحاد والترقي التركي- بدعم وتشجيع حكومات الدول الأوروبية المعادية للعثمانيين ولفكرة "العالم الإسلامي"، فكان لها دور كبير في خلع السلطان عبد الحميد وإنهاء مشروعه أولاً، ومن ثم الثورة ضد العثمانيين (الثورة العربية الكبرى 1918) وإخراجهم من المشرق العربي، ليحلّ محلهم الاستعمار الأوروبي بعد مدة وجيزة، وليتم على إثره تنفيذ ما سمّي بـ "وعد بلفور" ومنح فلسطين لليهود لاحقاً عبر التمهيد الذي بدأ بالانتداب البريطاني على فلسطين عقب إخراج العثمانيين، وصولاً إلى إعلان الكيان الإسرائيلي 1948.

أبو الهدى الشاعر

ختاماً، من الإنصاف أن نشير في معرض حديثنا عن الصيادي إلى الجانب الشعري. فالصيادي له نتاج شعري غزير، تمحورت أهم موضوعاته حول:

  • الاعتزاز بالنفس وفخره بحسبه ونسبه.
  • المدائح النبوية، وتمثل الكم الأكبر من شعره.
  • المدائح السلطانية.
  • قصائد وجدانية، والتي تعدّ من أبدع ما كتب، وإن كان الغزل لا يظهر كغرض شعري مستقل وصريح عنده، إلا أنه يميل لتطعيمه وتقديمه كقصائد وجد صوفي وعشق إلهي.

ومن تلك القصائد:

"قرب الحبيب وقد تباعد وصله

وعدا به أهلي علي وأهله

وكلفت فيه ضنى وغبت عن السوى

وجداً وأزعجني الرقيب وعذله

وأردت أن أقضي جوي وصبابة

لولا مواعيد الغزال ومطله

علقت يدي معنى بحب غرامه

وتعلقت فامتد بعد حبله

شغلي التذلل في سلوك طريقه

والصد عني والتدلل شغله

علم الورى حالي به وبليتي

وبدا لذي الدنيا جفاه وفعله

متواضعاً لمحبه لكنه

في الحب لا يرضيه إلا قتله...".