ينظر بعضهم إلى البحث في تاريخ بعض المدن والعائلات السورية، أو عائلة بعينها، بوصفه ترفاً في غير مكانه في هذه الظروف، وذلك قياسأ على هول ما عاناه ملايين السوريين من الحرب، التي شنها نظام الأسد وحلفاؤه الروس والإيرانيون عليهم، منذ اندلاع الثورة السورية في منتصف مارس/ آذار 2011، وما تبعها من حالات قتل وتعذيب واعتقال وتهجير، وخراب أغلب المدن والبلدات السورية. لذا فإن الجهد البحثي في تاريخ المدن والعائلات السورية يحمل في جنباته مظاهر ساذجة، كونه يأتي محمولاً على الحنين إلى الماضي الغابر، والتغني بأمجاد أزمنة ولّت، ورجال انتهت أدوارهم وأفعالهم.
غير أن ذلك فيه كثير من التجني على الجهود والأبحاث والدراسات الاجتماعية والسياسية للتاريخ، التي تنسجم مع مناهج وأدوات علم الاجتماع السياسي، وتطال محطات من التاريخ السوري، بغية رصد ما شهدته من تغيرات اجتماعية وسياسية وديموغرافية، وجعلها منطلقاً لفهم التاريخ السوري وبناء غد أفضل لأبناء سوريا، من خلال تصحيح المفاهيم المشوهة وإزالة العتمة التي حاول نظام الأسد، بنسختيه، الأبن والأبن، أن يسبغها على التاريخ السوري على فترات ما قبل انقلاب حافظ الأسد العسكري، والذي بنى في إثره ديكتاتورية مظلمة، ما تزال جاثمة على صدور السوريين.
ويعتبر فارس الأتاسي، مؤلف كتاب "التأثيرات الاجتماعية والسياسية للعائلات في سورية العثمانية - آل الأتاسي في العهد العثماني"، أن الغاية من كتابه لم تكن تبيان أهمية عائلة الأتاسي، وأن هدفه لا يتمحور على تعظيم العائلة أو المبالغة في تمجيد رجالها، وأنه وجد من خلال البحث أن تاريخ هذه العائلة يعكس تاريخ مدينة حمص نفسها، وما طرأ عليها، وعلى سوريا بشكل عام، من تحولات وتبدلات طوال أربعة قرون، تمتد منذ أواخر العصر المملوكي وصولاً إلى نهاية العهد العثماني.
ويستند الجهد البحثي في الكتاب بشكل أساسي إلى وثائق الأرشيف العثماني، إضافة إلى بعض المراجع الأخرى ذات الصلة بتاريخ مدينة حمص وعائلة الأتاسي في الفترة التي تبدأ من القرن السادس عشر وتنتهي مع بدايات القرن العشرين، ويتتبع فيها التغيرات والتطورات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها مدينة حمص خلال هذه الفترة، مركزاً على الأدوار التي لعبتها بعض شخصيات عائلة الأتاسي، وذلك على المستويين، الديني والسياسي، في أنه غاب عن الكتاب البحث في الأوضاع الاقتصادية للعائلة، إضافة إلى عدم الالتفات إلى الأثر الثقافي لأبنائها.
ويُعتقد أن مدينة حمص تأسست في الفترة بين 305- 280 قبل الميلاد على يد سلوقيس الأول نيكاتور، وتم ضمها في عهد بومبيوس عام 64 قبل الميلاد إلى الإمبراطورية الرومانية، لكن أوج ازدهار المدينة بلغ خلال العصر الروماني، التي عرفت فيه باسم "أميسا"، أما في أوائل القرن الخامس الميلادي فقد أنشئت أسقفية في المدنية تتبع دمشق، لتتحول إلى مركز ديني بعد اكتشاف رأس يوحنا المعمدان بالقرب منها، ثم دخل المسلمون المدينة عام 636 ميلادية بقيادة أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد دون إراقة دماء، ودُفن فيها حوالي 500 من الصحابة وعلى رأسهم خالد بن الوليد.
وبرزت أهمية حمص في فترة الحروب الصليبية كثغر من ثغور المسلمين، ثم واجهت هجمات المغول. وكانت المدينة تمرّ بفترات انتكاس وفترات انتعاش قبل العهد العثماني.
وشكلت حمص مركز استقطاب للمسلمين الأتراك والأكراد في ظل العهد السلجوقي، الأمر الذي ساهم في زيادة التنوع العرقي والديني، حيث كان يتواجد فيها المسيحيون، بمختلف طوائفهم، منذ القدم، إلى جانب عدد قليل من اليهود وسواهم. أما في العهد العثماني، الذي اتسم الحكم فيه بمركزية الإدارة، وكانت الأوامر تصدر من العاصمة إلى ممثلي السلطات المدنية والعسكرية في الولايات والسناجق والأقضية، فقد جرى دمج حمص مع حماة إدارياً في سنجق واحد يتبع ولاية الشام.
لم يستمر ذلك طويلاً، وتمّ فصل حمص عن حماة عام 1568، لتشكل سنجقاً مستقلاً حتى منتصف القرن التاسع عشر. وكانت السلطات العثمانية مشغولة في حمص بحل قضايا ومشكلات تتصل بالبدو والتركمان وطريق الحج، حيث مالت إلى استمالة البدو في البدايات، قبل محاربتهم لاحقاً. ولجأت السلطات العثمانية، إلى إسكان مجموعات من التركمان خارج سور حمص من جهة باب دمشق الذي سمي لاحقاً باب التركمان، ثم عمدت تلك السلطات إلى إسكان الموجات الجديدة من التركمان خارج حمص، في المنطقة بين حماة وحمص، من أجل حماية طريق الحج من الغزوات والهجمات. أما على الصعيد الاجتماعي فقد شكلت الأسرة أو العائلة الوحدة الرئيسية للنسيج الاجتماعي في حمص، ضمن تراتبية هرمية تبعاً للأحوال الاقتصادية والسياسية، في حين أن التركيبة الاجتماعية للمدينة فكانت تقسم إلى نخب اقطاعية ورعايا من عامة الناس والفقراء.
غير أن اللافت هو رفض أطروحة أن آل الأتاسي ينحدرون من أصول تركمانية، وأن رأس أسرتهم، الشيخ علي الأتاسي، جاء من تركيا إلى مدينة حمص مع دخول العثمانيين سوريا في القرن العاشر الهجري، حسبما ورد في كتاب "خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر"، للمحبي (محمد أمين بن فضل الله بن محب الله بن محمد المحبي)، وأن أول مجدهم يرجع إلى الشيخ أحمد بن خليل بن علي الأتاسي، هو أحمد بن خليل بن علي التركماني في الأصل، المعروف بـ"الأطاسي"، لكن المؤلف يرى أن عائلة الأتاسي هي "عائلة عربية مدينية سورية، تعتبر أقدم عائلة سياسية في سورية"، إذ يعود وجودها إلى قرنين قبل قدوم العثمانيين، اعتماداً على أوقاف المماليك على العائلة، فيما يعود تاريخ "انخراطها بمجال السياسة إلى منتصف القرن الخامس عشر الميلادي على أقل تقدير"، لكن بدايات ذكر اسم العائلة يعود إلى عام 1450 من خلال الشيخ إبراهيم بن الشيخ أحمد الأطاسي، إمام قلعة شيزر الواقعة في شمال غرب حماة، الأمر الذي يشير إلى أن العائلة انتقلت فيما بعد إلى مدينة حمص، وحصلت فيها على بعض الأوقاف.
بالنظر إلى التداخل بين الديني والسياسي في العصور الإسلامية وما قبلها، فإن الجانب الديني كان يمثل أهم أركان الحكم السياسي عند المسلمين، بما فيها الإمبراطورية العثمانية
وعُرفت عائلة الأتاسي كعائلة دينية وسياسية، حيث تولى العديد من أبنائها مناصب سياسية ودينية مختلفة على مدى ستة قرون بدءاً من القرن الرابع عشر الميلادي وصولاً إلى القرن العشرين، وكان من بينهم مفتين ووزراء ونواب وسفراء ومدراء ونقباء وسواهم. لكن الأهم هو أن ثلاثة من أبنائها تبوؤوا منصب رئاسة سوريا، وكان في مقدمتهم هاشم الأتاسي، الذي تولى الرئاسة في أعوام 1936 و1949 ثم 1950، ثم لؤي الأتاسي في عام 1963، ونور الدين الأتاسي في عام 1966، الذي بقي رئيساً إلى أن قام حافظ الأسد، وزير الدفاع وقتذاك، في عام 1970 بانقلاب عسكري، اعتقل في إثره الرئيس نور الدين الأتاسي، ورماه في سجن المزة طوال 22 عاماً، ولم يفرج عنه إلا بعد أن أكل السجن عظامه ونهش المرض الخبيث جسده، ليخرج من السجن إلى الموت في نهاية عام 1993.
وبالنظر إلى التداخل بين الديني والسياسي في العصور الإسلامية وما قبلها، فإن الجانب الديني كان يمثل أهم أركان الحكم السياسي عند المسلمين، بما فيها الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تستمد شرعيتها وشرعية حكامها من المرجعية الدينية، والزعم بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. ومن المدخل الديني عبر وظيفة الافتاء صعد دور وتأثير عائلة الأتاسي، التي اتبعت المذهب الحنفي الذي كان سائداً في سوريا في ذلك الوقت، وهو نفس مذهب الإمبراطورية العثمانية الرسمي، بالافتراق عن باقي البلاد العربية التي كان أبناؤها يتبعون المذهبين الشافعي والحنبلي.
ولم تقتصر وظيفة المفتي إبان العهد العثماني على الافتاء فقط، بل كانت تشمل التدريس من أجل مساعدة المفتي في كسب ما يعيله على العيش، وتشمل كذلك الوعظ وتولي الأوقاف، ورئاسة مشيخة الطرق الصوفية، وتولي مسؤولية النظر فيمن يتولى وظائف الإمامة والخطابة والتدريس وسوى ذلك، لكن الوظيفة غير المعلنة له هي أن يقوم بدور صلة الوصل ما بين السلطة والشعب، بوصفه أحد الوجهاء أو الأعيان في المدينة أو المنطقة المعين فيها.
ويعود تولي آل الأتاسي وظيفة الافتاء إلى أنه بعد قدوم العثمانيين إلى سوريا، تمكن الشهاب شمس الدين أحمد الأتاسي، حفيد الشيخ علي الأتاسي من مقابلة السلطان سلميان خلال وجوده في حلب عام 1554، وحظي بوظيفة التدريس في دمشق، ثم تولى بعدها منصب الإفتاء في حمص، بوصفه أول مفتٍ في المدينة، ثم توالى على تقلد وتوارث المنصب العديد من أبناء عائلة الأتاسي.
ومع استقرارهم في حمص وتنامي أدوارهم، سُميت محلّة فيها باسم الشيخ أحمد الأتاسي المفتي، وبقي اسمها حارة المفتي إلى اليوم. وبات عائلة الأتاسي، مثلها مثل سائر العائلات، لا تمثل مجموعة من الأفراد الذين يجمع بينهم رابطة القرابة فقط، بل تمتلك ثقلاً اجتماعياً وسياسياً، من خلال ما يحصل عليه بعض أفرادها من سلطة وثروة يراكمها، لذلك سعى بقية أفرادها من الاستفادة من ذلك، عبر تشكيل عصبية اجتماعية يتكاتفون بها وينافسون بها عوائل أخرى، وغالباً ما كان يفضي الأمر إلى نشوب صراعات بين العوائل، مثل الصراع الذي نشب بين آل الجندي وآل الأتاسي على المستوى العسكري والديني بعد تولي إبراهيم باشا ولاية سوريا.
وظهر في سوريا إبان العهد العثماني العديد من العوائل الاقطاعية في مختلف مدنها، وبرز في حمص عوائل أخرى مثل عائلة آل العطم وآل الرفاعي وآل الحراكي وآل الجندلي وآل سويدان وآل السباعي وآل الرفاعي وآل الموصلي وسواهم. وكان أغنياء وأرستقراطيو العوائل جميعاً يحاولون التقرب من الحكام والسلاطين في مختلف مراحل التاريخ، وذلك من باب الدفاع عن مصالحهم ومصالح المدينة التي يقطنونها.
وبالنظر إلى ضعف مركزية الدولة العثمانية، فقد اعتمدت في حمص، وفي سواها، على النخب الاقطاعية، التي قسمتها إلى عسكرية ومدنية دينية، واختارتهم من العوائل الفاعلة وذات التأثير المادي والمعنوي، وذلك من أجل توطيد أركان حكمها، حيث اعتمدت على آل سويدان وآخرين عسكرياً، فيما اعتمدت في الجانب الديني على آل دندش وآل الأتاسي وآل السباعي الذين نافسوا آل الأتاسي على منصب الإفتاء. وغالباً ما كان يحصل تقارب بين النخب الدينية والعسكرية عن طريق المصاهرة والزواج، وذلك في إطار الصراع على النفوذ والثروة في المدينة. أما عندما رحل العثمانيون عن المدينة، فقد بقي الدور الديني لعائلة الأتاسي، فيما شهدت مرحلة الانتداب الفرنسي صعود نخب العائلة السياسية، والتي ستلعب دوراً هاماً في تاريخ سوريا بعد الاستقلال.