أعلن القاضي محمود عدنان عجاج، قبل أيام انشقاقه عن حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام، مبرراً ذلك بأن وزارة العدل "أصبحت دمية بيد هيئة تحرير الشام".
لم يكن انشقاق عجاج هو الأول من نوعه الذي تشهده هيئة تحرير الشام، وإنما يأتي في إطار سلسلة من الانشقاقات نفذتها شخصيات جهادية، منهم قادة وشرعيون، تعكس الصراع الداخلي في الهيئة على الخط العام الذي تسير عليه، بين عصبة الجولاني وتيارات متشددة ترفض براغماتيته وسعيه لشرعية خارجية ونزع الصبغة الجهادية عن خطاب الهيئة.
واتهم القاضي المنشق قائد "تحرير الشام"، أبو محمد الجولاني، بالعمالة للقوى الخارجية وبأنه "باع من المحرر أكثر مما حرر"، ووصفه بـ "المجرم الذي قتل من الزنكي والأحرار أكثر مما قتل من النظام".
في المقابل، ردت حكومة الإنقاذ على اتهامات عجاج، ببيان موسع منقول عن "مصدر مسؤول في وزارة العدل"، جاء فيه بأن القاضي "مقصر ومهمل لواجباته الوظيفية".
وذكر البيان، أن المجلس الأعلى للقضاء قرر عزل القاضي محمود عدنان عجاج من العمل بشكل نهائي، بعد فقدان الأمل في تحسن أداء عجاج رغم المهل التي منحه إياها لذلك.
واعتبر البيان ما بدر من القاضي عجاج "افتراء وتشهيراً" بحق القضاء، متوعداً بمحاكمته قضائياً.
يستعرض موقع "تلفزيون سوريا" في هذا التقرير سلسلة الانشقاقات التي تشهد صفوف "هيئة تحرير الشام"، وما هي دوافعها وما مدى تأثيرها على قوة الهيئة التي تسيطر على أجزاء واسعة من شمال غربي سوريا؟ وكيف تحافظ الهيئة على تماسكها رغم هذه الضربات الداخلية؟
هيئة الجولاني
في عام 2016، أطل قائد هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، على السوريين، كاشفاً عن وجهه لأول مرة بعد إخفاء هويته لسنوات، معلناً بداية مرحلة جديدة في تاريخ جماعته، عنوانها إنهاء الارتباط بتنظيم "القاعدة"، وتبديل اسم "جبهة النصرة"، إلى "جبهة فتح الشام"، ثم إلى "هيئة تحرير الشام" في مطلع عام 2017.
منذ ذلك الحين، سعى "الجولاني" لاختيار أسماء رئيسية لقيادة "السفينة"، التي ستركز لاحقاً على إغراق السفن المنافسة لها، والتخلص من الأعداء، فصائل كانوا أو أفراداً، للوصول إلى الهدف المنشود، بحكم إدلب، وإدارتها عسكرياً ومدنياً.
أولى الجولاني اهتماماً لاختيار أشخاص يتمتعون ببراغماتية عالية، ولديهم القدرة على المناورة والسير بالسفينة كما يشتهي القبطان، وإدارة الملفات الأساسية داخل التنظيم، وهي العسكرة والإعلام والاقتصاد، إضافة إلى الملفين الشرعي والأمني.
يتألف مجلس الشورى في تحرير الشام، من 9 أشخاص عدا الجولاني، كما كشف موقع تلفزيون سوريا في وقت سابق، جميعهم ما زالوا ضمن الدائرة الضيقة المحيطة بالجولاني، ويسيّرون أعمال التنظيم بمختلف المجالات.
بالمقابل، تخلصت الهيئة، أو أقصت، أو دفعت بعض قادتها للانشقاق، بالرغم من دورهم الرئيسي في تمكين "تحرير الشام" على حساب فصائل المعارضة، وشراستهم في الدفاع عنها باسم الدين والشرع تارة، وباسم الثورة ومصلحة "الجهاد" تارة أخرى، فما الذي دفع هؤلاء القادة إلى الانشقاق، وما الأثر المترتب على هذا الأمر، وما العوامل التي حالت دون تفكك الهيئة بسبب هذه الضربات، على غرار فصائل أخرى؟
الانشقاق يتكرر في قسم القضاء المرتبط بالهيئة
لم يكن "عجاج" أول من ينشق عن حكومة الإنقاذ، من العاملين في قسم القضاء، ففي عام 2019، أعلن المحامي عصام الخطيب، الانشقاق عن الهيئة، ونشر مقطعاً مصوراً، كشف فيه انتهاكات وتجاوزات تحصل داخل سجون "تحرير الشام".
وكان الخطيب يشغل منصب رئيس المحكمة العسكرية الثانية في "هيئة تحرير الشام"، وتحدث بعد انشقاقه عن المحسوبيات والوساطات داخل سجون "وزارة العدل" في "حكومة الإنقاذ".
شرعيون وقادة انشقوا عن "تحرير الشام"
الانشقاقات عن الجولاني ليست حديثة، فقد شهدت هيئة تحرير الشام العديد منها منذ أن كانت لا تزال تحمل اسم "جبهة النصرة"، ويعود سبب معظم انشقاقات القادة والشرعيين لأمرين، الأول بسبب انفصال "النصرة" عن القاعدة"، والثاني بسبب النهج البراغماتي الذي يتبعه الجولاني أخيراً، وتماهيه مع الاتفاقيات الدولية، لا سيما الروسية التركية حول مصير إدلب.
انشقاق سمير حجازي وسامي العريدي
أدى توتر العلاقات بين "الجولاني" والشخصيات الرافضة للانفصال عن القاعدة، إلى انشقاق سمير حجازي، الملقب بـ "أبو همام الشامي"، والشرعي الأردني سامي العريدي، برفقة قادة وعناصر من "جبهة النصرة"، وتشكيل تنظيم "حراس الدين" في 27 شباط 2018.
تولى "حجازي" قيادة التنظيم، وهو من الأشخاص الذين التحقوا بالجولاني في 2012، إذ أسهم في تأسيس جبهة النصرة حينذاك، ليتسلم منصب الأمير العسكري العام، في حين تولى منصب الشرعي في حراس الدين، الأردنيان سامي العريدي وأبو جُليبيب الأردني.
وقبل الإعلان عن تشكيل تنظيم "حراس الدين"، وتحديداً في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2017، اعتقلت الهيئة كلاً من سامي العريدي، وأبو همام، وقادة جهاديين آخرين، متهمة إياهم بالسعي "لتقويض الكيان السني وزعزعته وبث الفتن والأراجيف فيه"، ثم أطلقت سراحهم في كانون الأول 2017.
انشقاق المحيسني والعلياني
وفي كانون الأول/ديسمبر 2017، أعلن الشرعيان السعوديان عبد الله المحيسني، ومصلح العلياني، استقالتهما من الهيئة، بعد أن وصفهما تسجيل مسرب، يعتقد أنه للجولاني، بأنهما من "المرقعين" الذين يحاولون منع عناصر الهيئة من قتال أحرار الشام.
خروج "رباعي" من الهيئة
خلال عامي 2019 و2020 خرج أربعة قادة جهاديين من "هيئة تحرير الشام" لأسباب مختلفة، وهم أبو اليقظان المصري، وأبو شعيب المصري، وأبو مالك التلي، وأبو العبد أشداء.
وفي 2019، أعلن الشرعي في الهيئة المدعو "أبو اليقظان المصري" استقالته من الهيئة، بعد رفضه طلباً يدعوه إلى الالتزام بالضوابط الإعلامية التي تضعها قيادة الهيئة ومجلسها الشرعي.
وبعدئذ فصلت الهيئة الشرعي طلحة الميسر، الملقب بـ أبو شعيب المصري، وقالت إن السبب هو مخالفاته المتكررة وعدم التزامه بسياسة الهيئة، مضيفة أنه سيتم إحالة ما يتعلق بكلامه على هيئة تحرير الشام إلى القضاء المختص.
وانشق القيادي في الهيئة، أبو العبد أشداء، ثم تحدث عن الفساد الإداري والمالي داخل تحرير الشام، وعن تراجع شعبيتها بشكل كبير، وقال في فيديو مصور إن "قيادة الهيئة لم تهتم خلال المعارك الأخيرة ضد روسيا بفتح المحاور القتالية المتعددة، والإكثار من الإغارات، وأهملت التحصين والتمويه".
وعلى الفور أعلنت الهيئة عن إعفاء "أشداء" من جميع مهامه، ومن قيادة “كتلة حلب المدينة" وإدارة "جيش عمر بن الخطاب"، وإحالته إلى القضاء العسكري، بسبب "الافتراء والكلام الذي لا يخدم إلا أعداء الأمة ويشق الصف"، بحسب بيان صدر عن الهيئة.
وأعلن القيادي في تحرير الشام، جمال زينية، الملقب بـ “أبو مالك التلي" انشقاقه عن الهيئة، عقب أيام من رفضه لقرار صادر عن حكومة الإنقاذ يتعلق بإيقاف صلوات الجماعة في المساجد بسبب كورونا.
تحرير الشام تمنع الانشقاق
اضطرت هيئة تحرير الشام، منتصف 2020، إلى إصدار قرار بمنع قادتها وعناصرها كافة من ترك الفصيل قبل مراجعة "لجنة المتابعة والإشراف العليا، وقبل إبراء الذمة من الجهة المسؤولة".
وذكرت أنه "يحظر على "الأخ التارك" تشكيل أيّ تجمع أو فصيل مهما كانت الأسباب"، أو "انتماء الشخص التارك إلى أيّ تشكيل أو فصيل موجود في الساحة قبل مراجعة لجنة المتابعة وأخذ الموافقة منها".
أسباب الانشقاقات وتأثيرها
معظم الانشقاقات التي حدثت داخل هيئة تحرير الشام، تعود إلى نية "الجولاني" بإبعاد المتشددين عن التنظيم، رغبة منه بتغيير سياسة الهيئة، ورفعها من على قوائم الإرهاب، فضلاً عن الصراع على المناصب لا سيما الشرعية.
وبحسب الباحث في مركز الحوار السوري، محمد سالم، تتعدد أسباب الانشقاق، منها الفكرية والأيديولوجية ومنها المالية أو المصلحية، وغالباً ما تكون مختلطة بين العديد من الدوافع.
وقال "سالم" في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، إن سعي قيادة الهيئة للابتعاد عن الجهادية العالمية، أدى إلى حدوث انشقاقات عديدة من الجهاديين، وهي انشقاقات مفهومة لأسباب أيديولوجية وفكرية، ولكن هذا لا يعني أيضاً عدم وجود أسباب أخرى متعلقة بالخلافات الشخصية أو الخلافات على المصالح، كما في حالة أبو مالك التلي الذي كان من أحد أسباب انشقاقه تهميشه وإبعاده عن صنع القرار.
وعن تأثير الانشقاقات على الهيئة، قال الباحث: "تؤثر هذه الانشقاقات على بنية ومصداقية هيئة تحرير الشام لدى الشرائح الداعمة للمنشقين، فانشقاق الشخصيات الجهادية أضعف بالتأكيد رصيد الهيئة لدى داعمي التيار الجهادي، بل أصبحت تصنف اليوم كعدو للتيار الجهادي من قبلهم".
واستدرك "لكن قد يكون لها آثار إيجابية من ناحية تعويض الانشقاقات بولاءات على أسس جديدة ربما تسهم في تماسك الفصيل كونها منسجمة مع التوجه الجديد الذي تتبناه هيئة تحرير الشام".
لماذا لم تتفكك الهيئة بسبب الانشقاقات؟
على الرغم مما سبق، حافظت "تحرير الشام" على تماسكها، ولم تتأثر إلى حد بعيد بالانشقاقات، كما حصل في فصائل أخرى، مثل حركة أحرار الشام، التي تفككت إلى عدة أقسام بسبب عمليات الانشقاق.
وفي هذا السياق يقول سالم: "العامل الأساسي الذي أدى إلى حدوث انشقاقات في أحرار الشام، هو العامل الخارجي، أي وجود ضغط من جهات خارج الفصيل متوافقة مع جهات داخله، حيث كان هناك ضغط من "هيئة تحرير الشام" على أحرار الشام، ودعم هذا الضغط جهات من الحركة في ظروف ضعف الفصيل وتراجع موارده المالية".
ولفت إلى أن هذا العامل غير موجود لدى "هيئة تحرير الشام" فلا يوجد عامل ضغط خارجي، كما أن لديها موارد مالية كونها تسيطر على المعابر وغيرها، إضافة إلى وجود نواة صلبة متماسكة متمثلة بقيادة الجولاني، ومن حوله من الأمنيين والممسكين بعصب الموارد من مؤيديه، مما أدى إلى وجود قيادة مركزية قوية لدى الهيئة، خاصة أنها تعتمد على المقاربة الأمنية لحساب السلطة ولو أدى الأمر إلى ارتكاب انتهاكات، وهو الأمر الذي لم يكن موجوداً لدى أحرار الشام.