ليس لدينا جواب على وجه اليقين، إن كان وجود وبقاء "حجازي" في سجون "هيئة تحرير الشام" بسبب أنه مهرب آثار، أو لأنه قبطي دخل سوريا مجاهداً مصرياً مدعياً أنه مسلم. مع الترجيح أن السبب الأخير هو الأهم، لا سيما أن عديداً من تابعي الهيئة يعملون بالتنقيب وتجارة الآثار بصورة علنية باعتبارها تجارة حلالاً. السجين المسيحي حجازي، وهو اسمه المتداول، مصري الجنسية، موقوف في واحد من سجون هيئة تحرير الشام. دخل إلى سوريا عام 2014 قادماً من مصر مروراً بتركيا. هو قبطي فعلاً، لكنه دخل كمسلم مجاهد جاء لينصر إخوانه المسلمين في الشام. أربع سنوات وهو يعيش ويتجول ويعمل في إدلب، ولم يكتشف أحد سر حجازي، حتى جاء عام 2018. أثناء حفل زفاف لعريس مصري حضره كثير من (المجاهدين) المصريين. وخلال جلسة تعارف، تورط حجازي وذكر اسم قريته في مصر. "أمير" مصري يحتل منصباً هاماً في الهيئة، بدأ بسؤاله عن أسماء محددة تنتمي لقريته المزعومة. ارتبك الرجل وحاول المغادرة بحجة انشغاله بأمر هام. على الفور أعطى (الأمير) المصري أوامر لعناصره باعتقاله، وأخذه إلى مقر الفصيل المكون بأكمله من المصريين.
يقول حجازي إنهم ظنوه عميلاً للمخابرات المصرية، جاء بغية معرفة أسماء المصريين المجاهدين في سوريا، لكنه استطاع أن يثبت براءته من هذه التهمة بسبب شهادة "أبو حسن الكناني"، وهو صديقه المقرب وشريكه في العمل طيلة أربع سنوات خلال البحث عن العاديات وبيعها (العاديات هي الآثار بلغة أهل الجهاد)، وأنهما كانا يدفعان ما يجب عليهما ككل العاملين بالعاديات والرِكاز (الدفائن تحت الأرض). الكناني أكد أن صديقه أخبره عن حقيقة ديانته، وغايته من القدوم لسوريا.
حجازي دارس للآثار، وخبير متخصص في "المدن المنسية" شمال غربي سوريا، وكان زار بعض هذه المدن قبل عام 2011، وأعدّ عنها أوراقا بحثية علمية. ولهذا ربما خطرت له فكرة الانتقال إلى المنطقة حين صارت مسرح معارك، مما يتيح له جني ثروة من خلال خبرته ومعرفته المسبقة بآثارها. ولم يجد سبيلاً للحضور سوى طريقته الطريفة بادّعاء الجهاد في منطقة صارت الغلبة فيها للتيارات الإسلامية منذ تلك الفترة.
فور وصوله تواصل مع السكان، وقد ساعده في ذلك "الكنانيّ"، الذي كان قد سبقه بالوصول من مصر إلى سوريا مجاهداً. سريعاً، ذاع صيتهما في منطقة جبل الزاوية، وبدأ يقصدهما بعض الأهالي ممن يعرفون مواقع تحوي حجارة ذات كتابات ورموز في أراضيهم الزراعية. استخرجا قطعاً كثيرة لكن أغلبها كانت فخاريات غير ذات قيمة مادية كبيرة، حتى نجحوا بعد عدة شهور في العثور على رأس تمثال في الوادي الواقع بين بلدة "حاس" وموقع "شنشراح" الأثري غرب مدينة معرة النعمان، ومن يومها بدأت نِعم الجهاد تظهر عليهما.
مثلنا تماماً، يتساءل حجازي أيضاً عن سبب توقيفه، وعن تكرار جلسات التحقيق معه، مدّعياً أنه قد دخل الإسلام قبل انكشاف أمره بشهادة الكناني، خصوصاً أنه ليس الوحيد الذي يعمل في استخراج وتجارة العاديات، كما أن العمل والتجارة في هذا المجال حلال حسب الشريعة الإسلامية، فالكنوز المدفونة تعود لأمم وثنية ولا قيمة دينية لها. أقوى حجة لدى حجازي بمواجهة المحققين كانت أن "أبو مالك التلي" ما زال يعمل حتى اليوم، في المجال ذاته بالشراكة مع أبي النصر طلال كليلي. التلّي، لمن لا يعرف، هو "جمال حسين زينية" من بلدة "التل" في ريف دمشق، الذي اشتهر باختطاف راهبات معلولا والإفراج عنهن مقابل مبلغ مالي كبير، حين كان مسؤول جبهة النصرة في منطقة غرب القلمون، قبل انتقاله إلى إدلب بعد الاتفاق الشهير مع حزب الله صيف 2017.
يذكر حجازي اسم طلال كليلي ويستطرد بأنه خذله بشدّة، حين طلبه للشهادة ولم يستجب. يدّعي الرجل أنه ساعد كليلي في استخراج وتقييم الكثير من القطع والكتب القديمة من عدة أماكن في جبل حارم. كان حجازي يحتاج شهادته لتكون دليلاً على اعتناقه للإسلام، فهو من ساعد طلال بالحفر أسفل الكنيسة الرومانية القديمة في "قلب لوزة" الواقعة في "جبل الدروز" أحد جبال سلسلة حارم. فلو كان بقي مسيحياً لما حفر في الكنيسة، كما يبرّر. تحت الكنيسة وجدوا عدة صلبان منحوتة، إضافة إلى كتب دينية مسيحية، يعتبر حجازي أن لها قيمة مالية عالية جداً في أوروبا، والأهم من بين تلك الكتب، سجلٌّ استطاعوا من خلاله معرفة مواقع عدة مدافن وصوامع خاصة بالرهبان، على طريق جبل سمعان أنطاكيا القديم، وكذلك مغارات تقع في سفوح الجبال المطلة على نهر العاصي بالقرب من مدينة دركوش.
"أخرجنا معاً الكثير من العاديات من مرتحون (معارة الإخوان) وبابسقا وباموقا وباريشا وباشمشلي في جبال حارم أيضاً. كما عثرنا في موقع المشبك على عدة كتب دينية هامة جداً" يقول حجازي، لكن طلال أخبره بعد أسابيع أن الأمن التركي عثر على الكتب بحوزة جماعته في تركيا وقاموا بمصادرتها. شاهد حجازي الكتب المصادرة حين عرضتها وسائل الإعلام التركية، وأكد أنها ليست ذات الكتب التي عثروا عليها في المشبك. منذ تلك اللحظة اعتبر الرجل أن طلال خانه. الطريف أن حجازي، بعد تنقيبه في الكنائس ونهب صلبانها، بات يعتبر المسيحية ديانة وثنية، وأن آثارها "عاديات" حسب فقهه التجاري الجديد. طبعاً لم يقل الرجل ذلك لكنّه تخمين شخصي، مبني على سلوكه وأقواله.
ما أورده حجازي عن أبو مالك التلي كان صحيحاً. فالتلّي يعمل اليوم، في تجارة وتهريب الآثار، ويسكن مزرعة على الطريق بين حزانو وكللي. المزرعة تعود ملكيتها لشريكه "طلال طالب" وهو من قرية كللي، يملك عدة محطات وقود، ويعد أحد أهم موردي المشتقات النفطية إلى "المحرر". كان كللي حتى عام 2018 أميراً عسكرياً لقطاع جبال حارم، ثم أميراً في "الاقتصادية" لدى هيئة تحرير الشام، لكن بسبب نزاعات مع أمراء آخرين، ترك "العمل الجهادي" وتفرّغ للجهاد النفطي حيث يعمل اليوم، بينما ينتظره حجازي في سجنه ليقبل الشهادة لصالحه، فيقتنع المحققون أنه اعتنق الإسلام بالفعل، وأنه مجرد تاجر ومهرب آثار لا أكثر.
ربما لا يعرف تجار الحرب هؤلاء (سأتناول بعضهم في مقالات لاحقة) عن "اتفاقية لاهاي" لحماية الممتلكات الثقافية في حالات النزاع المسلح، وأكثر من ذلك قد لا يعلمون القيمة التاريخية والحضارية لآثار أي بلد، لكن جميعهم بالتأكيد يعلم أن ما يقومون به هو حالة من اللصوصية التي تعاقب عليها قوانين الدول، وأن بعضهم قد أدرج اسمه على لوائح "الإنتربول" فعلاً.