ندين للمفكر الفلسطيني والعالمي إدوارد سعيد "بإعادة قراءة التاريخ الإنساني وإعادة تكوين خطاب سردي إنساني جديد، على ضوء نظرة جديدة لمفهوم الاستشراق الذي كان سائدا قبله"، خاصة وأنه قد استطاع أن يعيد طرح مفهوم الدراسات الإنسانية برؤية الناقد المتعدد والمتنوع والمنفتح على الآخر معتمدا على تفكيك المتعارف عليه المهيمن والسائد. الأمر الذي أزعج مفكّري الغرب كما يوضح سعيد في كتابه "المسألة الفلسطينية" (1979): "لقد استمع الغرب للمرة الأولى إلى حكاية الصهيونية من وجهه نظر الضحية".
كما ندين لمحمود درويش (أحد أهم الشعراء الفلسطينيين والعالم العربي) بتطوير الشعر العربى الحديث وإدخال الرمزية فيه؛ وببناء خطاب سردي فلسطيني متحد مع الخطاب السردي الإنساني، كما ندين له بالتأكيد دائما على سؤال الضحية وسؤال ضحية الضحية.
وقد قرأ كل من "درويش" و"سعيد" واقعهما السياسي والإنساني في مرآة "الآخر"، فجسّد "درويش" الألم الإنساني بشكل عام، كما ناقش "سعيد" القضية العربية بإنسانية عالية، الأمر الذي جعلهما يشكلان "الأنموذجين الأكثر أهمية" على صعيد بحث فلسطين عن سرديتها الخاصة بها، التي لم يسمح لها الاحتلال الصهيوني بكتابتها، وعلى صعيد تفكيك السردية الصهيونية/ الإسرائيلية، بوصفها، تبعا لإدوارد سعيد، سردية إمبريالية لا تختلف من حيث الجوهر عن الخطاب الإمبريالي الغربي إلا بكونها سردية أكثر تصلبا وانغلاقا ورجعية من الإمبريالية الغربية على وجه العموم.
نجد أن إدوارد سعيد ومحمود درويش قد أسّسا معا خطابي الذاكرة والتاريخ وتحريرهما، وأعادا صياغتهما، بعد إدراكهما جيدا للفكرة القائلة بأن حرب الشعب الفلسطيني مع الآخر في إثبات الهوية الفلسطينية هي حرب ذاكرة
وإذا كان سعيد يرى في كتابه "صور المثقف" أن المثقف هو ذلك الذي يتصدى لمناقشة أسئلة محرجة ويجابه المعتقد التقليدي والتصلب العقائدي بدلاً من أن ينتجهما"، فقد وجد في درويش المثقف الفلسطيني الذي يتمناه فقد قال: "إن الشعر لدى درويش هو تلاحم عسير للشعر وللذاكرة الجمعية، ولضغط كلّ منهما على الآخر"، أما درويش فقد كتب رائعته: "طباق إلى إدوارد سعيد" ليؤكد على عمق تأثير فكر سعيد في فكر وشعر درويش حيث جاء فضاء اللغة في القصيدة فكري الخطاب طارحا أسئلة فلسفية عميقة، كما امتلأت القصيدة بأسئلة الهوية والسؤال عن الجلاد والضحية وفيما يسميه درويش في نهاية القصيدة "حق طروادة في اقتسام الرواية" أي الحق الفلسطيني والشرقي يشكل عام باقتسام التاريخ البشري بشكل متساوي مع الغرب.
يبدأ درويش قصيدته من خلال التساؤل عن بابل (سردية فلسطين الضائعة) وعن سدوم (السردية الصهيونية التي تلغي الأولى):
"لا أدري أهذه بابل أم سدوم؟".
ومن جهة ثانية تتضح في القصيدة هوية إدوارد سعيد الفلسطينية التي لم يتخل عنها يوما عن هويته الفلسطينية خاصة وأنه اشتغل كمواطن فلسطيني سياسي ومثقف في الوقت ذاته، وأصدر كتابه “القضية الفلسطينية” في العام 1978 ساردا تاريخ الحركة الصهيونية وفكرها ضمن رؤيته للثقافة الاستعمارية الأوروبية وتشجيع اليهود على الهجرة إلى أرض فلسطين، وتحدث في الكتاب عن تاريخ الشعب الفلسطيني وتفاصيل حياته، مؤكدا أن فلسطين لم تكن أرضا خالية لا شعب فيها كما ادعت الصهيونية، بل كانت مجتمعا مدنيا ذا كيان سياسي يناهز عدد أفراده 600 ألف نسمة على عكس ما كان زعماء الصهيونية يشعون في العالم، ثم أصدر كتاب بعد السماء الأخيرة المليء بالذاكرة الفلسطينية الحية الموثقة بالصور، كمحاولة مضاعفة لتوثيق الوجود الفلسطيني ورصد حالات البؤس والشقاء بعد النكبة.
وهنا في هذه القصيدة يؤكد درويش هلى عمق هذه الهوية التي جمعتهما والتي شكلت قضية وجود لشعب كامل دافع عنها سعيد من خلال قراءة جديدة لمفهوم الاستشراق:
"ندافع عن فكرة كسرتها هشاشة أصحابها
عن بلد خطفته الأساطير
دم في بلادي
دم في بلادك
وقناصة بارعون
يجيدون اصابة الهدف".
وفي هذا السياق، نجد أن إدوارد سعيد ومحمود درويش قد أسّسا معا خطابي الذاكرة والتاريخ وتحريرهما، وأعادا صياغتهما، بعد إدراكهما جيدا للفكرة القائلة بأن حرب الشعب الفلسطيني مع الآخر في إثبات الهوية الفلسطينية هي حرب ذاكرة، فبقدر ما تتذكر بقدر ما تثبت وجودك وهويتك وسرديتك الخاصة. وكما يقول فانون في 'معذّبو الأرض' (1961) فإنّ القلق الذي يشعر به المثقّف المستعمَر، هو ما يدفعه للبحث عن البرهان الذي يقول بوجود حضارة ساطعة مختفية تحت الرماد، في الماضي البعيد/ وهذا البرهان لا يكون فقط من أجل مبارزة ثقافيّة بين حضارة بلاده وحضارات أخرى، بل هو حاجة ضروريّة لتحقيق التوازن العاطفيّ والنفسيّ للمثقّف. وعندما يجد هذا المثقّف نفسه عاجزًا عن إقامة أيّ علاقة حقيقيّة بالمكان، أو عاجزًا عن تحقيق التوازن النفسيّ المطلوب مع ما حوله، يجد نفسه مضطّرًا إلى العودة للقديم، للماضي، للذكريات، للطفولة، للأساطير، للحلم، لأيّ ماضٍ قد يعيد إليه بعض التوازن." وهكذا يصف درويش حاجة الشعراء في قصيدة 'طباق' متحدّثًا عن إدوارد سعيد:
"أدافع عن حاجة الشعراء
إلى الغد والذكريات معًا".
ومن جهة ثانية، تؤكد قصيدة طباق على أن كلا من درويش وسعيد قد عاشا تجربة المنفى وتفاعلا مع فكرة المنفى بشكل إيجابي وخلقا إبداعا وفضاءات من الرؤية المتوازنة للذات والآخر في ظل البعد المكاني عن الوطن، حيث يصف درويش في قصيدته هذه التعايش السلمي بين هذين الفضائيين، (البلاد والمنفى) فلكل منهما دوره ووظيفته المنتجة للمحصلة النهائية للصورة السعيدية والدرويشية العامة، فيقول:
"أنا من هناك. أنا من هنا
ولستُ هناك، ولستُ هنا.
لِيَ اسمان يلتقيان ويفترقان…
ولي لُغَتان، نسيتُ بأيِّهما
كنتَ أحلَم،
منفى هو العالم الخارجي
ومنفى هو العالم الباطني فمن أنت بينهما ؟".
هذه السردية الوجودية تخص كل مثقف مغترب، فكأن سعيد (الفرد) تشظى إلى جماعة تسير في متوالية مستمرة أو كأنهم اختزلوا فيه.
يقول درويش :
"والحنين إلى أمس؟
عاطفة لا تخص المفكر إلا
ليفهم توق الغريب إلى أدوات
الغياب".
ويختم درويش القصيدة بدفاع إدوارد عما يسميه الحق في اقتسام الرواية، أي الحق في صنع التاريخ وسرده أو إعادة كتابة والذي هو الجوهر الذي ناضل لأجله سعيد في نقده لمؤسسات الاستشراق، يقول درويش واصافا أمريكا بسدوم الجديدة لربط الامبريالية بالصهيونية:
"عندما زرته في سدوم الجديدة
في عام ألفين واثنين
كان يقاوم
حرب سدوم على أهل بابل
والسرطان معًا،
كان كالبطل الملحمي الأخير
يدافع عن حق طروادة
في اقتسام الرواية
ويقول: لا تَصِفْ ما ترى الكاميرا من
جروحك. واصرخْ لتسمع نفسك
وأصرخ لتعلم أنَّكَ ما زلتَ حيّاً".