واشنطن تتأهب أوروبياً.. والدوحة تنشط لبنانياً

2023.07.18 | 05:59 دمشق

واشنطن تتأهب أوروبياً.. والدوحة تنشط لبنانياً
+A
حجم الخط
-A

يتصرف المسؤولون في لبنان مع الأزمة الرئاسية على أنها أزمة العالم الأوحد والتي يتسابق العالم للمشاركة في الدفع باتجاه حلها، في حين أن الأزمات الحقيقية أعمق وأبعد، وما يشغل العالم أزمات لا يبدو لبنان حاضراً على أيٍّ من فصولها الرئيسية، في ظل إعادة تشكيل المنطقة الشرق أوسطية، في ظل حالة الاصطفاف العامودي الحاصل والمستلقي على نار البركان الذي انفجر في أوكرانيا. لكن ما يجري في العالم لا يعني انتفاء أهمية بقعة لبنان، ولكنه تفصيل مهم بسبب موقعه الجغرافي على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.

وما من شك في أن الحرب الدائرة التي أرهقت الدول في القارة العجوز ألزمت تلك الدول برسم سياسة جديدة لها، خصوصا أنّ طرفي القتال هما روسيا التي تستعين بحلفائها الإيرانيين وميليشيات من دول مختلفة من جهة والولايات المتحدة الأميركية والفريق المتحالف معها من جهة أخرى. وعلى الرغم من أن هنالك خطوطاً حُمراً تمنع هذه الحرب من اجتياز واقع مرسوم بعناية، والذي حُدِّد منذ عقود على يد الرئيس الأميركي السابق هنري كيسنجر، وهذه السياسة تقتضي بعدم هزيمة روسيا وكذلك في الوقت نفسه لا ينبغي أن تحقق نصراً، إلا أن المؤشرات كلها توحي بوجود رغبة دولية في استمرار الحرب إلى وقت مفتوح وغير محدد بسقف زمني واضح.

والمؤكد أن الظرف تغيّر وهذا التغيّر يترجم بتراجع كبير لقوة روسيا ومكانتها العالمية، في حين أن العين الأميركية والأوروبية تتركز على الصين التي لن تسمح بانتصار أميركي وفي الوقت نفسه تنتظر تراجعاً أكبر لموسكو يدفع بها إلى السقوط كلياً في أحضان التنين الصيني، لِتعمد بعدها بكين إلى الدخول المباشر على الخط، لذلك أتت قمة دول الناتو بأهمية قصوى هذه المرة، فهي انعقدت في العاصمة الليتوانية وعلى بعد 35 كلم فقط من حدود بيلاروسيا الحليف الأساسي لروسيا في هذه المساحة.

والخلاصة الأهم لهذه القمة أن الدول الأوروبية عادت إلى حقبة الحرب الباردة، ولكن بمقدار أكثر سخونة هذه المرة بسبب تطورات الميدان الأوكراني المشتعل. وفي وقت قرأ فيه بعضهم إيجاباً عدمَ موافقة واشنطن على البَدء بعملية انضمام كييف إلى حلف الأطلسي، إلا أن بعضَهم الآخر قرأها من زاوية مختلفة وهي رفض إدارة بايدن الدخول والتورط المباشر في الحرب وفق ما تقتضيه شروط الدول الأعضاء في الحلف، وهو ما يعني استطراداً أنّ الحرب باقية لفترة مفتوحة ولا سقف زمنياً محددٌ لها. لكن أحدَ أهم أهداف هذه القمة تمحور حول صَوغ استراتيجية عسكرية وسياسية مشتركة. وهذا ما ينبغي فهمه من خلال الطرح الداعي إلى توسيع عديد قوات الردع الأوروبية من 40 ألفاً لتصبح أكثر من 250 ألف رجل يَجب أن يكونوا في حالة تأهب قصوى.

المزاج الأوروبي آخذ بالتبدل، بعد غياب التأثير الأوروبي على الخريطة الدولية، في ظل الخشية من طموح بوتين لفرض سيطرته على دول أوروبية، بعد إحكام قبضته الداخلية على روسيا ودول مرتبطة بها

والدول الأوروبية كانت قد آثرَت معالجة التحديات التي واجهتها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية بأسلوب التسويات والمساومات، وجاء سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي لِيُضاعف من حجم الرهان الأوروبي على الحلول الديبلوماسية على حساب القوة العسكرية والحروب، لكن الواضح اليوم أن المزاج الأوروبي آخذ بالتبدل، بعد غياب التأثير الأوروبي على الخريطة الدولية، في ظل الخشية من طموح بوتين لفرض سيطرته على دول أوروبية، بعد إحكام قبضته الداخلية على روسيا ودول مرتبطة بها.

لذا فإن الذهاب في اتجاه خيار تعزيز قوة الردع الأوروبية يتطلب كلفة مالية مرتفعة، لكن بعض الدول المنتجة والمصنعة للسلاح ترى في عودة المصانع العسكرية إلى كل طاقتها الإنتاجية عاملَ ازدهار للاقتصاد العسكري والتسليحي.

بالمقابل سعت دول كبريطانيا وألمانيا خلال القمة الأخيرة للدفع باتجاه تجهيز أكثر من خمسين ألف جندي في حدٍّ زمني أقصاهُ أسبوعان ونحو 100 ألف جندي إضافي خلال شهرين، وصولاً إلى نصف مليون جندي في مدة أقصاها سنة، وأحد أهداف القمة تَمثّلَ بِثَني موسكو عن فكرة اختراق حدود ليتوانيا وأستونيا وغيرها من الدول الصغيرة في القارة من خلال القوة الردعية الأوروبية وزيادة الانتشار العسكري الأميركي.

والأساس اليوم في دول الحوض الشرقي للمتوسط أن الدول الأوروبية هي جارتها البحرية الأساسية، والاستراتيجية الجديدة للناتو تشمل الشرق الأوسط والجزء الأكبر من البحر الأبيض المتوسط. لذا فالاتجاه الأوروبي الجديد والمدعوم من واشنطن هو لإخراج النفوذ الروسي والصيني بعيداً عن الحدود الجنوبية والشرقية لأوروبا ليضمن مساحة آمنة واستراتيجية لأوروبا وحدودها.

وعليه ليس مصادفة إعادة الصين لتعزيز وجودها الإقليمي في البحر الأبيض المتوسط وتركيز الاستراتيجية الروسية على التمدد جنوباً من البحر الأسود إلى البحر المتوسط وبعض دول إفريقيا. وهنا أهمية تركيا التي اتخذت مواقف بَدَت صادمة للوهلة الأولى فهي تخلّت عن سياسة الحياد واقتربت أكثر من الموقف الأميركي وذهبت بعيداً حين طالبت بضَمّ كييف إلى حلف الناتو، وسلّمت زيلينسكي قادة مجموعة آزوف بشكل مخالف للاتفاقية التي كانت قد حصلت مع روسيا ببقاء هؤلاء المسؤولين في إسطنبول تحت رعاية المخابرات التركية والتي يقودها إبراهيم كالن اليوم، ورغم هذه المواقف المتقدمة حرص بوتين على تفهم مواقف أردوغان وأصرّ على استمرار برنامج زيارته لأنقرة مطلع آب المقبل.

ومع تزايد التحديات يتبدّى موقع تركيا الأساسي كونها مدخلاً أساسياً إلى المنطقة الإقليمية وإعادة تموضعها كحليفة مسلمة متقدمة لواشنطن لكن من دون التصادم مع روسيا. وهنا يمكن فهم القراءة الغربية للساحل الشرقي للبحر المتوسط، والذي يشكل لبنان وسوريا جزءاً أساسياً منه، تصبح أكثر وضوحاً.

ومع كل ذلك فإن لبنان على الرغم من إعادة تحريك ملفه على يد القطريين والفرنسيين، لكن تبقى ملفات المنطقة أكثر إلحاحاً منه، فهنالك ترتيب الصورة في شمالي سوريا وإنجاز التفاهمات المطلوبة مع تركيا ولذلك سيجهد الموفد الرئاسي الفرنسي لودريان في دفع السعودية إلى الانخراط أكثر في الملف اللبناني. وهي المهمة المكلف بها من إدارته. والرياض ولأسباب متعددة أهمها المراوحة الحاصلة في ملف اليمن وتعقيدات العلاقة المستجدة مع طهران ما تزال في بدايتها في مقاربتها لملف الأزمة الرئاسية في لبنان.

وثمة اعتقاد لدى الأطراف اللبنانية أن اجتماع الدوحة الخماسي وما يمكن أن ينتج عنه هو المفتاح الرئيسي لصورة المرحلة المقبلة لبنانياً، خصوصاً أن لدى الدوحة والرياض مقاربة مشتركة، عبر خلق حوار لبناني داخلي مدعوم خارجياً، ويكون منحصراً بالاتفاق على انتخاب رئيس الجمهورية، من ضمن سلة شاملة تضم الاتفاق على رئيس الحكومة، وآلية تشكيل وتوزيع الحكومة، بالإضافة إلى الاتفاق على تعيينات في مواقع أساسية بالدولة، يجري العمل من قبل فريق خبراء لبناني على إعداد دراسة تضم مواصفات 30 موقعاً رئيسياً في صلب العمل العام.

تنشط واشنطن التي أوفدت سفيرتها الجديدة ليزا جونسون بصمت مطبق على دراسة مجموعة من الأسماء لتولي مناصب رفيعة في لبنان، والحيز الأكبر يبدو اليوم في ترتيب وصول رئيس حكومة متوافق مع رئيس جمهورية

والحركة القطرية الناشطة بحركة السفير سهلاوي والموفدين المتنقلين والدائمين باتجاه لبنان، تأتي بالتشارك مع السعودية، والولايات المتحدة. لذا فإن الأطراف المتعددة لا تزال تعول على قدرة قطرية بتحقيق تقدم في الملف الرئاسي، ربطاً بعلاقة الدوحة مع غالبية القوى السياسية الداخلية، بالإضافة إلى علاقة القطريين المتقدمة بواشنطن وطهران والرياض، والمؤكد أن الدوحة التي لا تزال تعمل على خط الاتفاق النووي، نجحت في الوصول إلى حلول في الملفات الأفغانية واليمنية والفلسطينية وغيرها.

في حين ترجم الحضور من خلال ملف التنقيب عن النفط والغاز والتصدير في المستقبل، لا سيما أن لبنان لديه آمال كبيرة في أن تستثمر قطر في قطاع الطاقة وفي عملية تصدير الغاز بعد استخراجه، إضافة إلى تعويل على دخول قطري في قطاعي المصارف والسياحة.

في حين تنشط واشنطن التي أوفدت سفيرتها الجديدة ليزا جونسون بصمت مطبق على دراسة مجموعة من الأسماء لتولي مناصب رفيعة في لبنان، والحيز الأكبر يبدو اليوم في ترتيب وصول رئيس حكومة متوافق مع رئيس جمهورية، وعلى الرغم من حالة التخبط في الوسط السني، فإن مسؤولين أميركيين أبدَوا إعجابهم بمجموعة من السير الذاتية لشخصيات سنية، احتكت بهم واشنطن وتحديداً وزيرة الداخلية السابقة ريا الحسن التي تنشط في مجالات اقتصادية ومجموعات عمل دولية، في حين يتقدم اسم وزير البيئة الحالي ناصر ياسين على اعتبار ما حققه في ظل الفراغ الحاصل في المرفق العام.

هذا يعني أن واشنطن ما تزال تضع ملف الاستحقاق الرئاسي جانباً، ربما في انتظار إنضاج التفاهمات الجديدة في المنطقة. خاصة أن الفاتيكان وبالتفاهم مع فرنسا أعاد تنشيط ديبلوماسيته في اتجاه إدارة بايدن بسبب قلقه الشديد على الوضع اللبناني وواقع المسيحيين والدعوات المستمرة للتقسيم.