افتتح مؤخرًا في إدلب معرض الكتاب، وكان لهذا العام مميزًا من جوانب عدة، أهمها عدد دور النشر المشاركة، وعدد عناوين الكتب. كما تمت دعوة شخصيات عامة من تركيا لحضور هذه الفعالية وإعطائها زخماً، وهذا يُحسب للمنظمين، إذ أرادوا أن يعكس هذا الحدث الثقافي واقع المحافظة بعد نحو عشر سنوات على تحريرها من جيش النظام والميليشيات الإيرانية. وبحسب ما رشح عن الزوار، كان المعرض جيدًا وفيه الكثير من الفعاليات والأنشطة المرافقة، ومنها الندوات التي عُقدت على هامشه. في إحدى هذه الندوات، تحدث الدكتور أحمد موفق زيدان وطلب في مداخلته أن نسمّي مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام الممتدة على عموم محافظة إدلب وأجزاء من أرياف حلب واللاذقية وحماة بـ"الكيان السني".
لاقى هذا الطرح استياء واسعًا من قبل شريحة كبيرة من السوريين، منهم من يعيش في إدلب، كما لاقى أيضًا استحسان البعض الآخر. قبل الحديث عن خطورة هذا الطرح وفي هذا التوقيت، علينا ألا نغفل أن هناك جرائم إبادة حصلت بحق الأغلبية العربية المسلمة في المنطقة بالعقدين الأخيرين، من العراق إلى لبنان مرورًا بسوريا ومؤخرًا في اليمن بعد سيطرة الحوثي المدعوم إيرانيًا على مقدرات اليمنيين. إبادة بمعناها الحرفي كما حصل في العراق وسوريا، وإبادة سياسية كما حصل في لبنان واليمن. ففي العراق، دفع المسلمون العرب المناوئون لإيران أثمانًا باهظة، بداية لأنهم وحدهم من قاوم الاحتلال الأميركي. وكلنا يذكر الفتاوى الشهيرة لكل الحوزات العلمية المدعومة من طهران والتي حرّمت قتال الجيش الأميركي في وقت كانت فيه فتاوى الجهاد سببًا في توافد آلاف المقاتلين إلى العراق لمقاومة الجيش الأميركي. وبعد استتباب الأمر للجيش الأميركي، اعتمد على القوى المدعومة من إيران وسلمها مفاتيح حكم العراق، وأصبح العرب المسلمون الذي يعادون المشروع الإيراني مهمشين وخارج دوائر صنع القرار، بعد أن تم قتل وتهجير مئات الآلاف من بيوتهم بحجة محاربة فلول نظام صدام حسين وما أطلق عليه في حينه "اجتثاث البعث".
شارك معظم السوريين من كل المكونات في الثورة ضد نظام الأسد، لكن أي متتبع للمجازر التي حدثت منذ بداية الثورة، والمدن التي تم تهجير سكانها، وأيضًا لعدد الشهداء والمعتقلين، يجد أن معظم ضحايا النظام هم من الغالبية المسلمين.
وأفضل مثال على ذاك التحالف بين الجيش الأميركي والميليشيات الشيعية هو ما حدث في الموصل، التي استُبيحت من قبل طيران التحالف الذي تقوده أميركا وجحافل الميليشيات التي كان يقودها قاسم سليماني. تم تدمير المدينة وتهجير معظم سكانها في أكبر عملية تغيير ديموغرافي، وحتى اليوم، ورغم مرور سنوات على طرد التنظيم منها، لم يُسمح لسكان الموصل بالعودة. وهناك أمثلة كثيرة مشابهة في العراق.
في سوريا، شارك معظم السوريين من كل المكونات في الثورة ضد نظام الأسد، لكن أي متتبع للمجازر التي حدثت منذ بداية الثورة، والمدن التي تم تهجير سكانها، وأيضًا لعدد الشهداء والمعتقلين، يجد أن معظم ضحايا النظام هم من الغالبية المسلمين، مع التأكيد على أن الشهداء والمعتقلين والمهجرين قسرًا هم من كل أطياف الشعب السوري. وأسوق هنا مثالين: الأول من الرقة، حين احتلت ميليشيات حزب العمال الكردستاني الرقة بغطاء جوي أميركي وهجّرت أهلها بعد تدمير جزء كبير من المدينة؛ والثاني من حلب، التي احتلتها الميليشيات الإيرانية بغطاء جوي من الجيش الروسي، وتم تهجير مئات الآلاف من سكانها بعد تدمير جزء كبير من أحيائها الشرقية.
إذًا، الأرضية مهيأة لكي يكون طرح مصطلح "الكيان السني" مقبولاً لدى بعض السوريين بناءً على ما سبق من مجازر حصلت بحقهم، وقياسًا لما هو قادم بعد ارتفاع وتيرة التطبيع مع نظام الأسد من قبل العرب ودول الجوار. خلق مظلومية مذهبية والتأصيل لها بهذا الشكل يجذب الكثير لأنه شعار براق ويستند إلى وقائع ما زالت تحدث حتى اليوم. ومطلق هذا المصطلح أو التسمية له تاريخ طويل من العمل مع الجماعات الجهادية، وهو يُوصف اليوم بأنه أحد أهم قيادات هيئة تحرير الشام، وإن كان بدون منصب رسمي. ويقال إنه رئيس حكومة الإنقاذ الفعلي وله سطوة كبيرة على المؤسسات المدنية العاملة في المنطقة، وهو من يسهل كل لقاءات الجولاني مع الإعلام الغربي. ولا يمكن أن ننسى بطبيعة الحال دعمه الكبير لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، حين كان يرتكب المذابح بحق المدنيين ويعين النظام على قتال الجيش الحر، وحين كان تخصُّص التنظيم احتلال ما حرره الجيش الحر.
طرح هذا المصطلح في هذا التوقيت يخدم طموحات الجولاني وحده، لأنه يعزز من مشروعية سلطته التي بدأت تهتز بعد زخم المظاهرات التي استمرت طويلًا.
من زاوية ديمقراطية ومن باب حرية التعبير، يحق لأي سوري أن يطالب بما يشاء ويسعى لتحقيق مطالبه بالوسائل الديمقراطية المتاحة، كما فعل زيدان في ندوة معرض الكتاب. ولأن الجو العام لا يسمح بفضاء ديمقراطي صحي وحياة سياسية تنتج عنها تيارات وأحزاب، فإن صاحب مصطلح المذهبي هذا يستغل نفوذه وسطوته لفرض هذه التسمية والعمل بشكل ميداني على أن تصبح أمرًا واقعًا. هل كانت ندوات معرض الكتاب ستفتح لجميع الأصوات في إدلب؟ وهل كان للمتظاهرين يوم مخصص في المعرض ليعبروا عن مطالبهم مثلما أتيح لأحمد موفق زيدان؟ أم أنها كانت حكرًا على من انتقتهم هيئة تحرير الشام التي تتحكم بكل مفاصل العمل المدني والخدمي والاقتصادي؟ طرح هذا المصطلح في هذا التوقيت يخدم طموحات الجولاني وحده، لأنه يعزز من مشروعية سلطته التي بدأت تهتز بعد زخم المظاهرات التي استمرت طويلًا. وأفضل مهرب من شعارات المتظاهرين، التي تريد تعزيز الرقابة ومحاسبة الفساد وانتهاكات الأجهزة الأمنية وتعزيز مفهوم مؤسسات الدولة، هو الهروب إلى تأسيس كيان ما قبل الدولة!
وهنا يأتي دور القوى السياسية والمجتمعية للتصدي لهذا الطرح المدمر الذي يريد تقزيم تضحيات السوريين المستمرة منذ 2011 وحتى الآن، ويريد تشويه أعظم ثورة في هذا القرن، ثورة رفعت شعارات عظيمة وحملت قيمًا أخلاقية وثورية ستعيش طويلًا. مسؤولية كبيرة تقع على الجميع، وفي مقدمتهم الائتلاف والمجلس الإسلامي السوري. صحيح أن المؤسستين لا نفوذ لهما في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، لكن لمواقفهما وبياناتهما أثر إيجابي. فالمجلس الإسلامي يعتبر أعلى مرجعية إسلامية تمثل وتعبر عن قوى الثورة والمعارضة، وهو الوحيد القادر على إضعاف هذا المشروع الخطير وفقدانه المرجعية. والائتلاف تقع عليه مسؤولية تقديم نموذج وطني في مناطق نفوذه، لكي لا تُترك الساحة لأصحاب مثل هذه الطروحات. وإن كان النظام "علويًا خالصًا" كما وصفه الباحث الفرنسي ميشيل سورا، فإن الثورة لم تكن في يوم من الأيام "ثورة سنية".