في الأول من آب الجاري، أبحرت سفينة محملة بـ26 ألف طن من الذرة من ميناء أوديسا الأوكراني قاصدة لبنان، وذلك في أول رحلة لها منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط الماضي، وفي اختبار وتجربة للصفقة التي وقعت بين البلدين في الثاني والعشرين من تموز الفائت وذلك حول إعادة فتح الموانئ الأوكرانية لتقوم بتصدير المواد الغذائية. وعن ذلك أعلن وزير البنية التحتية بأوكرانيا، أوليكساندر كوبراكوف أن إبحار تلك السفينة يمثل: "خطوة أخرى باتجاه منع انتشار الجوع في العالم"، وذلك لأن تلك الاتفاقية وقعت لتخفف من أزمة الغذاء العالمية، بعدما أعلنت الأمم المتحدة بأن 50 مليون نسمة باتوا على شفا المجاعة، ولهذا وصف أنطونيو غوتيرش الأمين العام للأمم المتحدة، تلك الاتفاقية بأنها: "منارة في البحر الأسود"، فهل ستخفف الموانئ الأوكرانية بعد إعادة فتحها من حالة الجوع على مستوى العالم؟
القمح والفقر
نظرياً، يجب أن يترتب على إعادة فتح تلك الموانئ تمكين أوكرانيا من تصدير خمسة ملايين طن من المواد الغذائية شهرياً (فهي تصدر تقريباً مليوني طن عن طريق البر وعبر نهر الدانوب، إلا أن كلا الطريقين يخضعان لقيود أكثر بكثير من القيود المفروضة على الشحن في البحر الأسود). بيد أن نحو 20 مليون طن من الحبوب بقيت في موانئ أوكرانيا، في حين يتوقع لـ60 مليون طن أخرى من الحبوب أن يتم تصديرها عقب موسم الحصاد في هذا الصيف. إذ بحسب ما أوردته منظمة الأغذية والزراعة العالمية التابعة للأمم المتحدة فإن قرابة 40 دولة، غالبيتها من الدول التي تعتبر الأفقر في العالم، تعتمد على واردات القمح الأوكرانية والروسية بنسبة تفوق 30%، وثمة دول أخرى بينها أريتريا والصومال تعتمد على واردات القمح الأوكرانية والروسية بنسبة 100% تقريباً.
تراجع أسعار القمح
إن العودة لتصدير الحبوب يمكن أن تساعد في منع ارتفاع أسعار الأغذية عالمياً، بعد تباطؤ وتيرة ارتفاعها خلال الأشهر القليلة الماضية، فقد تراجع مؤشر الأمم المتحدة لأسعار الغذاء للشهر الثالث على التوالي وتجلى ذلك التراجع بأعلى مستوياته في شهر حزيران، وذلك بسبب زيادة إنتاج الحبوب، حيث ساهم الحصاد الوفير في أستراليا وشروط المحاصيل المواتية في دول أخرى منتجة للقمح على تخفيض سعره ليصل إلى مستوى أعلى بقليل من سعره قبل الحرب، كما أن الإعلان عن صفقة الحبوب ساعد على تخفيض السعر ليصل إلى ما دون ذلك الحد.
أوديسا وميكولايف والمزيد من الخروقات
إلا أن الشكوك ماتزال تحوم حول ذلك الموضوع، إذ بالرغم من دخول الصفقة حيز التنفيذ، فإنه لم يتضح مدى التزام روسيا بهذه الصفقة، إذ بعد يوم على توقيع الاتفاقية، ضربت الصواريخ الروسية ميناء أوديسا، كما تعرض ميناء ميكولايف على البحر الأسود للقصف هو أيضاً بعد أيام على ذلك، وهذه الضربات قد تتكرر. ثم إن عملية نقل الحبوب تخلق تحديات لوجستية، إذ قد تصر شركات الشحن والتأمين على رفض التدخل بتلك العمليات، كما قد لا تتمكن الموانئ التي دمرتها الحرب من العمل بكل ما لديها من إمكانيات، وقد يتعين على السفن أن تسلك طريقاً محدداً سلفاً لتجنب أي ألغام زرعتها أوكرانيا لتحبط أي هجوم بحري من قبل روسيا.
منارة القمح البعيدة وسط ظلام الجوع
إن بدأت هذه الصفقة بالتذبذب، فعندها قد ترتفع أسعار الأغذية من جديد، إذ بعد الهجمات التي تعرضت لها أوديسا مثلاً، قفزت أسعار القمح قفزة كبيرة. أما الشكوك فتضاف إلى المخاطر الأخرى التي يمكن أن تلحق بأسعار الأغذية على المدى البعيد، وذلك لأن أسعار المواد الزراعية مثل الوقود والأسمدة، بقيت مرتفعة، وتعقدت مهام سلاسل التوريد، ويرجع أحد أسباب ذلك إلى تفشي كوفيد-19 الذي تسبب بحالة من الركود والتأخر. أما التغير المناخي فينذر بتضييق الخناق على عمليات توريد الحبوب ورفع أسعاره وذلك من خلال موجات الحرارة المرتفعة للغاية والجفاف. ثم إن الاستجابة الخاطئة للحكومات، مثل القيود المفروضة على عمليات التصدير والتخزين، تزيد من تلك الضغوط إلى حد كبير. والأنكى من ذلك أن أسباب الجوع في معظم الدول الفقيرة ترجع لأمور أخرى لا علاقة لها بالحرب في أوكرانيا، وذلك لأن النزاعات المحلية القائمة في دول مثل إثيوبيا والصومال واليمن هي من يتسبب بوقوع مجاعات، والانهيار الاقتصادي الذي تشهده سيريلانكا جعل غالبية السكان الذين كانوا ينتمون في السابق للطبقة الوسطى، يتناولون وجبة واحدة في اليوم دون بقية الوجبات، أي إن منارة البحر الأسود في تلك الدول ماتزال بعيدة جداً.
المصدر: إيكونوميست