تمثّل مقولة "قوة لبنان في ضعفه" أساسًا معقولًا للبدء في الحديث ليس فقط عن واقعه الحالي المربوط بحبل التجاذبات الإيرانية الإسرائيلية المشدود، بل عن واقع منطقة الشرق الأوسط الراهن عمومًا المتشابك بطريقة رهيبة لا يمكن فك تعقيداتها بسهولة.
لم يعد الأمر مقتصرًا على هذا البلد الصغير الذي كان على مرّ تاريخه الحديث مبنيًّا على توازنات كثيرة، بعضها داخلي يعكس توترات انعدام وجود الهوية الوطنية الجامعة وبالتالي مفهوم الأمة والدولة، وبعضها خارجي أخذ مبرر وجوده واستمراره من دعمه لقوى محلية استقوت به بالمقابل لتستمر الدوامة على مراوحتها تلك، بل يمكن القولُ إنه يشمل المنطقة بعمومها، من سوريا مرورًا بالعراق وصولًا إلى اليمن وحتى مربط الفرس في إسرائيل.
باتَ اليمنُ، ولانعدام وجود دولةٍ مسؤولةٍ وفق معايير النظام الدولي الراهن، قاطعَ طريقٍ يتحكّم بواحدٍ من أهمّ المعابر البحرية في العالم، وللسبب ذاته فإنّ تموضعه هذا يخدم مصالح نظامٍ أجنبي لا مصالح الشعب اليمني الرازح تحت نير الحرب الأهلية منذ أمدٍ طويل. فكيف يُنتظرُ من ميليشيات عقائدية ساعية للسلطة أن تأخذ في الحسبان مصالح اليمنيين إن كانت هي من تأخذهم رهينة لتفاوض عليهم في سبيل بقائها واستمرار توسعها؟ لهذا نرى أنّ تهديد السفن المارّة في البحر الأحمر وبحر العرب أصبح فعّالًا لدرجة أربكت نظام التجارة العالمي كلّه إلى حدّ ما، فمن لا يخشى العواقب يمكنه أن يمضي في تهوّره إلى حيث يريد، فالناس ومصالحهم مجرد وقود في محرقة الميليشيات هذه.
تجاذبات سوريا
سوريًا بات الأمر أكثر وضوحًا، فهذا البلد الذي ظلّ منذ نشأته على يد الانتداب الفرنسي عام 1920 محطّ تجاذبات تركية مصرية سعودية عراقية، ثم أصبح لاعبًا على توازنات اختلاف مصالحها وعلى وقع سخونة القضية الفلسطينية واستثمارها بل والتحكم بكثير من خيوطها، بات الآن أيضًا مقسّمًا بين لاعبين جدد خرج منهم مع الأسف العرب بشكل شبه كلّي. ازدادت قوّة تركيا بدخول قواتها العسكرية بشكل مباشر وبتحكمها بعدد كبير من الفصائل العسكرية والميليشيات المحلية، وتعاظمت قوّة إيران بعد تغلغلها في نسيج الجيش والأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة المدنية وأجهزتها الإدارية، بل وفي بعض الأحيان في النسيج الاجتماعي لبعض المناطق التي تمّ تغييرها ديمغرافيًا وهندستها لإحكام السيطرة.
بينما تبقى روسيا صاحبة الثقل الأكبر بحكم قواعدها العسكرية الاستراتيجية وبحكم أنها واحدة من الدول النووية العظمى وصاحبة حق النقض في مجلس الأمن. أمّا الأميركيون فهم الأكثر قدرة على تعطيل أي حلٍّ لا يتماشى مع مصالحهم، فهم من يتحكّم بجزء كبير من رقعة الشطرنج من خلال وجودٍ رمزي في شرقي وشمال شرقي سوريا، بل يطلّون من خلال هذا الوجود على دول المنطقة المحيطة كلها، العراق والأردن وتركيا وإسرائيل ولبنان وحتى إيران.
أصبح جيش مصر منافسًا اقتصاديًا للدولة ذاتها ومؤسساتها لما يمتلكه من ميزات تفضيلية لا يمكن لأي مؤسسة أخرى مجاراتها.
واقع العراق
أمّا العراق، فقد بات منذ الخطأ التاريخي الذي ارتكبه صدام حسين بغزو الكويت، نهبًا للتقسيم الداخلي والتحكم الخارجي، وتكرّس هذا مع الاحتلال الأميركي عام 2003 الذي سلّمه بالنتيجة على طبقٍ من ماسٍ لإيران. استكملت الأخيرة تفكيك مؤسسات الدولة العراقية واحدة تلو الأخرى وأحلّت مكانها ميليشيات طائفية تأخذ أوامرها من حرسها الثوري مباشرة.
بدأ المحتل الأميركي الأمر بحلّ الجيش وفرض قوانين التطهير العنصرية التمييزية، واستمر إلى يومنا هذا بتعاونٍ منقطعَ النظير من قوى عراقيةٍ فاقدةٍ لأدنى سمات الوطنية والشرف.
هكذا أصبح العراق "العظيم" محطة من محطات طريق القدس الإيراني الذي يوصل إلى كلّ خراب وأيّ دمار ولا يوصل أبدًا إلى عنوانه المرفوع زورًا وبهتانًا.
حال مصر
مصر التي كانت حجر الزاوية في الأمن القومي العربي أصبحت الآن أضعف من أن تحافظ على شريان وجودها منذ آلاف السنين، فالحصار المائي الذي تحقق أثيوبيًا بات حقيقة لا مراء فيها. بينما تعربدُ إسرائيل منذ عدّة أشهر في غزة، ووصل بها الاستهتار بمصر وجيشها أن خرقت اتفاقيات كامب ديفيد واحتلت معبر رفح وقتلت جنودًا مصريين وأهانت كبرياء الأمة كلها. صارت أكبر مشاريع التنمية في البلاد هي السجون والقصور، وتحوّل جيشها من جيشٍ محاربٍ حارسٍ للحدود والشعب، إلى حارس للسلطة ومقاول داخلي يقدّم خدمات إنتاج اللحوم والخضار وتوزيعها بعيدًا عن رقابة البرلمان معفيًا من دفع الضرائب. أصبح جيش البلاد منافسًا اقتصاديًا للدولة ذاتها ومؤسساتها لما يمتلكه من ميزات تفضيلية لا يمكن لأي مؤسسة أخرى مجاراتها، فأي خرابٍ بعد هذا الخراب!
العنف في إيران جوهر أساسي رافقها منذ لحظة التأسيس الأولى، وبينما يتم إنفاق المليارات على مشاريع التسليح والسيطرة الخارجية، يقبع السكان تحت ضغط انهيار الاقتصاد بسبب الحصار والعقوبات المفروضة على دولتهم.
أزمات إيران
أما إيران، التي يتحكّم نظام الحكم فيها بعدد من دول الجوار بأدواتٍ داخلية باتت معروفة للجميع، فهي أيضًا قائمة على ديكتاتورية الفرد المطلقة المحروسة بتراتبية مؤسساتية عجيبة. العنف في إيران جوهر أساسي رافقها منذ لحظة التأسيس الأولى، وبينما يتم إنفاق المليارات على مشاريع التسليح والسيطرة الخارجية، يقبع السكان تحت ضغط انهيار الاقتصاد بسبب الحصار والعقوبات المفروضة على دولتهم التي باتت تصنّف في خانة الدول المارقة. الجوع ينهش المواطنين الإيرانيين وعصى القمع تسحق عظامهم، وهذا التناقض الداخلي وحده كفيلٌ بانهيار نظام الحكم مهما طال الزمن، فقد حاول الشعب الإيراني مرارًا الخلاص من هذا الواقع، وسينجح يومًا ما.
ظهرت منذ بدء عملية السابع من أكتوبر هشاشة نظام الاستيطان العنصري الصهيوني في فلسطين المحتلة، ولولا الدعم المهول الغربي والأميركي بالسلاح والمعدات والأموال من جهة، والدعم السياسي والإعلامي من نفس الحلف من جهة ثانية، لما كان لهذا الكيان ولا لجيشه البقاء واقفًا حتى الآن. هنا تظهر المقولة المعاكسة لما بدأناه في مقدمة هذا المقال، بحيث تصف حال دولة الكيان الصهيوني وباقي دول المنطقة، وهي "ضعف الدول في قوّتها".
أليس وراء هذا الجبروت وهذا الصلف وهذا الإجرام اللامحدود واللامتناهي ضعفًا بنيويًا واضحًا وجليًا؟ ألم تبدأ بالانهيار في عيون الناس في العالم وبالأخص منهم الجيل الشاب أكذوبة "شعبٍ بلا دولة على أرضٍ بلا شعب" وأكذوبة "الديمقراطية الوحيدة في صحراء الديكتاتوريات" وأكذوبة "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم" وسلسلة طويلة من الأكاذيب التي بُنيت أوروبيًا وتمت رعايتها أميركيًا عن حق الوجود الإسرائيلي في أرض فلسطين وعلى حساب شعبها وحقّه في الوجود والعيش كبقية شعوب الأرض؟
الاستيطان والاحتلال والظلم والاستبداد وقهر البشر لم تعد أقدارًا مسلّمًا بها، فمصادر قوة الدول في شرعيتها ومقبوليتها الداخلية أولًا، ثم يأتي الاعتراف الدولي بها. أمّا العنف فإنه إحدى أدوات فرض الاستقرار بحكم القانون، لكنّه يصبح سبب الانهيار والسقوط عند تحوّله بديلًا عن الشرعية. لذلك ستسقط هذه الأنظمة المترابطة وجوديًا والمتماثلة بنيويًا لأنها أصبحت عقبة في وجه الحياة ذاتها وتطور مسيرة البشرية، وحتى وإن استطاعت إلى حينٍ كسر إرادة الشعوب، فإنها لن تستطيع ذلك إلى الأبد.