اعتقد كثيرون أن الغموض حول خلفية القرار المفاجئ للائتلاف في إنشاء مفوضية عامة للانتخابات في سوريا بتاريخ 20/11/2020، له معنى واحد هو النية المبيتة للمشاركة في انتخابات الأسد الرئاسية المقبلة، ويجد هذا المنظور تأييداً في سلوك رئيس الائتلاف الذي يبدو كما لو أنه يروج لنفسه رئيساً مقبلاً لسوريا، بدءاً من تقليد لبعض الرؤساء، وصولاً إلى السلوك الاجتماعي الجديد والمفاجئ للتعامل مع الناس والوجود المحدود (مع كثافة مرافقة في نشر الصور ذات الطابع الدعائي) كلها تساعد على إثارة الشكوك، حيث لا شيء يستدعي التحضير لانتخابات، إذ لا استحقاقات انتخابية في المدى المنظور، إلا إذا اعتبرنا انتخابات الأسد هي المقصودة.
في الواقع يذهب هذا الاعتقاد بعيداً، فصدور قرار إنشاء مفوضية عامة للانتخابات تتداخل فيه مجموعة من الاستحقاقات التي يواجهها الائتلاف، فمن جهة على الائتلاف كمؤسسة سياسية عامة متصدرة لمشهد المعارضة أمام المجتمع الدولي أن تستعد لأسوأ الاحتمالات، وأحد أسوأ هذه الاحتمالات هو احتمال الذهاب إلى انتخابات مباشرة من دون انتظار أي نتائج للجنة الدستورية، والواقع أن هذا طرح روسي قديم، ذكر على هامش جنيف2، ثم في اجتماعات لاحقة، وأيضاً كان هو الـطرح الرئيس للروس في المفاوضات المؤسسة لمسار أستانا مع القوى العسكرية الثورية في أنقرة نهاية عام 2016، على مشارف سقوط مدينة حلب.
ولسوء الحظ فإن الأميركيين في السنة الأخيرة من عهد ترامب أخبروا عدداً من شخصيات المعارضة الأكثر شعبية لمواجهة الأسد في انتخابات محتملة بالاستعداد لهذا الخيار بإشراف وإدارة الأمم المتحدة في حين يبقى موضوع توفير البيئة الآمنة والمحايدة بشكل ملائم محل دراسة، والغرض حسب الأميركيين هو "إطلاق التغيير" والخروج من المسار المتعثر للحل السياسي في جنيف.
لقد كان على الائتلاف واجب الاستعداد لمواجهة مثل هذا الاحتمال في حال فرض هذا الحل بين القوى الكبرى وعجزت المعارضة السورية عن إحداث تغيير فيه، وهو ما يتوقع من الائتلاف أن يفعله.
طرح بعض قيادات الائتلاف على دولة صديقة فكرة انتخابات محلية في مناطق "سيطرة المعارضة"، فهنالك أكثر من 6 ملايين سوري وهؤلاء يمثلون ربع السكان، وهنالك نحو هذا العدد وأكثر في دول اللجوء
ومن جهة ثانية طرح بعض قيادات الائتلاف على دولة صديقة فكرة انتخابات محلية في مناطق "سيطرة المعارضة" في الشمال السوري، فهنالك أكثر من 6 ملايين سوري وهؤلاء يمثلون ربع السكان، وهنالك نحو هذا العدد وأكثر في دول اللجوء حول العالم، وبالتالي بالإمكان تأسيس سلطة شرعية في مواجهة النظام وكذلك في مواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي PYD الذي يجري انتخاباته للإدارة الذاتية، لكن هذا الطلب قوبل بالرفض؛ والسبب واضح فمثل هذه الانتخابات ستعطي الشرعية لأي انتخابات تجري شرق الفرات وتعزز من وضع سلطة PYD الكردي، وبالتالي تثبيت وضع خاص أو إنشاء كيان مستقل محتمل.
ومن جهة ثالثة يعاني الائتلاف من شبه انعدام للقاعدة الشعبية، ثمة أسباب كثيرة ووجيهة لذلك، فقد أصبح نادياً خاصا ومغلقا، وليس له أي تأثير على الأرض، لهذا السبب فكر بعض أعضاء الائتلاف في توسعة الائتلاف عبر انتخابات محلية، مع الحفاظ على عصب الائتلاف من خلال الحفاظ على عضوية أعضائه الذين يمثلون كتلاً سياسية (انقرضت في معظمها) أو يمثلون أنفسهم فقط، لكن المشكلة التي أرقت قيادة الائتلاف من هذه الفكرة هي قوة الشرعية التي قد يتمتع بها القادمون عبر هذه الانتخابات مقابل "عضوية الأمر الواقع" لمعظم أعضاء الائتلاف، وهو ما قد يهدد قدرتهم على التأثير في قرارات الائتلاف ويفقدهم السيطرة على مساره العام.
في 14/07/2020 كان نظام الأسد يحضر لانتخابات برلمانية في 19 من الشهر نفسه، وحيث إن الائتلاف يعاني من مشكلة الشرعية ولمزيد من انخراط القوى المدنية السورية والتأثير في قرار الائتلاف من جهة، وتكوين جذور اجتماعية وسياسية وطنية، اقترحتُ على قيادات الائتلاف بحضور رئيس اللجنة الدستورية هادي البحرة المبادرة بإجراء انتخابات برلمانية موازية لانتخابات نظام الأسد وإجرائها في عموم سوريا بما في ذلك مناطق قسد بهدف تعزيز نزع الشرعية عن الانتخابات، بالإضافة إلى تحقيق الأهداف المشار إليها قبل قليل.
ومع العلم مسبقا أن إمكانية إجراء انتخابات في مناطق النظام وقسد أمر صعب، إلا أنه ممكن لو استعملنا التقنية الإلكترونية (مقابل الانتخابات بالبريد في بعض الدول) اعتمادا على الرقم الوطني، صحيح أنه سيكون هنالك مشكلة في موضوع القوائم الانتخابية ولكن أيضا يمكن إيجاد حلول لها، ومع المعرفة المسبقة أن انتخابات برلمانية مثل هذه ستكون مليئة بالثغرات إلا أنها على كل حال ستكون أفضل من انتخابات الأسد.
سألني البعض ماذا نفعل بالبرلمان المنتخب؟ قلت إنه سيكون وقتها مرجعية الائتلاف! هكذا يمد جذوراً اجتماعية وفي الوقت نفسه يتحرك بإيقاع مضبوط ببرلمان شبه حقيقي! ومن الممكن أن يتم انتخاب مجلس شيوخ من البرلمان ليكونوا أعضاء منتخبين في الائتلاف، يتم استبدالهم في كل دورة برلمانية.
لم يستحسن قياديو الائتلاف هذه الفكرة، وجادلوا بأن أطرافاً دولية عديدة وإقليمية ستقف ضدها كما وقفت ضد فكرة الانتخابات في المناطق التي تحت سيطرة المعارضة، وسينظر لها على أنها عمل مستفز يعرقل الحل السياسي، ولا يريد الائتلاف وضع أي عقبة في ظل سياسته في "إحراج النظام"!. والآن وعلى وقع ردود الفعل على قرار تشكيل المفوضية يمكنني أن أتوقع بوضوح ماذا كان يمكن أن تكون ردة فعل الشارع السوري وتخميناته لو قرر الائتلاف المضي خلف المقترح.
كان نصر الحريري قد انتخب للتو، وبدأ يقود تغييرات لمد جسور مع المجتمع السوري، ويبدو أن فكرة توسعة الائتلاف عبر انتخابات مباشرة التي طرح مشروعها أحد قادة الائتلاف حظيت باهتمام متزايد في توسعة غريبة قام بها الائتلاف عززت انفصاله عن السوريين وضمت إليه شخصيات مثيرة للجدل وبعضها مبغض على نطاق واسع من السوريين، وتطور النقاش إلى كيفية إجراء هذه الانتخابات.
شكل رئيس الائتلاف نصر الحريري غرفة تواصل استشارية من محامين سوريين يستعين بهم رئيس الائتلاف في عمله، واقترح أحد أعضائها الطموحين فكرة مفوضية عامة للانتخابات
شكل رئيس الائتلاف نصر الحريري غرفة تواصل استشارية من محامين سوريين يستعين بهم رئيس الائتلاف في عمله، واقترح أحد أعضائها الطموحين فكرة مفوضية عامة للانتخابات، وذلك بالرغم من أن إنشاء مفوضية عامة للانتخابات لا يمكن للائتلاف ولا لنظام الأسد أن ينشئها في ظل استمرار الصراع ووجود قرارات دولية، فالجهة الوحيدة القادرة على ذلك هي هيئة الحكم الانتقالي. أوكلت مهمة صياغة قرار المفوضية إلى هذا العضو، وما من شك أن أعضاء الائتلاف جميعهم كانوا على علم بذلك، وبالأخص المؤثرين الرئيسيين فيهم في قيادة الائتلاف.
لا يبدو واضحاً ما إذا كان قادة الائتلاف قد حددوا من يمكن أن يكون رئيساً لمثل هذه المفوضية، لكن المحامي حسان الأسود صرح في مقابلة مع صحيفة جسر المحلية بتاريخ 23/11/2020، أنه مرشح لشغل هذا المنصب، والطريف أنه بدأ في مقابلته واثقاً لدرجة أنه اشترط لقبول هذا المنصب أن يتمتع بصلاحيات واسعة هي في الواقع صلاحيات رئيس هيئة الحكم الانتقالي تماما!!
حظي قرار تشكيل المفوضية بشبه إجماع في رفضه خصوصاً مع الملابسات التي حفته، والمشار إليها في مقدمة المقال، فقرر الائتلاف سحبه في 23/11/2020، ومن الواضح أن سياق تشكيل المفوضية منفصل انفصالاً تاماً عن الواقع من قبل جميع الأطراف التي ساهمت فيه، ويعكس أزمة الائتلاف أكثر مما يعكس رغبته في التأثير في المجتمع السوري والاقتراب منه، لكن وعلى الرغم من أن الائتلاف لم يفكر بالتأكيد ولم يكن ينوي المشاركة في أي من انتخابات النظام؛ إلا أن جذور فكرة الانتخابات والمسار السياسي ومعضلة شرعية الائتلاف كانت هي المحفز الرئيس والتي لا يبدو أنها ستجد حلاً في المدى المنظور.