هل سوريا أمام انعطافة في الإقليم؟

2024.07.06 | 03:34 دمشق

572533333333334
+A
حجم الخط
-A

يمتلئ عام 2024 بالمفاجآت الانتخابية في العديد من دول العالم، حيث تدور انتخابات مفصلية تؤسس لتحولات وانعطافات، وتصيب أول ما تصيب سوريا ولبنان نظراً لهشاشة النظامين في الدولتين وترهلهما من جراء الأزمات والحروب.

فقد كشفت الاستحقاقات الانتخابية في كل من فرنسا وأميركا وإيران، عن تبدل داخلي كبير في هذه الدول، مما سيؤثر على السلوك السياسي والتعاطي الخارجي، وقدرة الدبلوماسية الخارجية لهذه الدول على حل النزاعات، أو إدارة الصراع في الإقليم، خصوصاً ما استجد من تحول في السياسة التركية تجاه النظام في سوريا، في محاولة إيجاد أو خرق لفرض توازن إقليمي جديد، قادر أن يُعيد رسم خارطة النفوذ لدى دول إقليمية وازنة كتركيا وإيران والمملكة العربية السعودية.

تبدد الحلم الأميركي

الرئيس الأميركي جو بايدن، والذي يعول عليه الحزب الديمقراطي كل الآمال، قد تبددت كل الجهود في تثبيت ولاية جديدة له، خصوصاً بعد المناظرة التلفزيونية الكارثية على حد وصفهم لها. ومن الطبيعي أن يشعر بايدن بالضعف وتراجع ثقته بعد ظهوره غير المتماسك، مما فتح الباب بقوة أمام مطالبته بالانسحاب. أما في فرنسا، فقد فاجأ الرئيس الفرنسي الناخبين بطرح انتخابات مبكرة في خطوة اعتبرها المراقبون ناقصة وانفعالية غير مدروسة وأقرب إلى الارتجال. نتيجةً لذلك، صعد اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية، إذ إن حسابات ماكرون المتهورة أعطت اليمين المتطرف الفوز الكاسح في مقاعد البرلمان، والأهم أن تكريس قوة اليمين المتطرف وسط انقسام عمودي، يجعل مما يحصل أزمة حقيقية تؤسس لانعطافة كبيرة في مسار الجمهورية الفرنسية، وربما على الصعيد الأوروبي أجمع.

أما الانتخابات الرئاسية الإيرانية، فقد اختزنت مفاجآت معبرة ومؤشرات مقلقة، نظراً لنسبة المشاركة الانتخابية التي لم تتجاوز عتبة الـ 37% في سابقة منذ قيام الثورة عام 1979. هذا يعني أنه لا يمكن بعد الآن تجاوز التحديات الداخلية الموجودة.

صارت الاغتيالات والتصفيات السياسية في الداخل السوري التي يتلقاها النظام جزءاً من مسيرته العرجاء، ضمن حسابات خارجية في تقوية النفوذ بين القوى الكبرى داخل سوريا.

صراع لتثبيت النفوذ

وسط هذه الأزمات الانتخابية يتعمق المأزق السوري أكثر فأكثر، ويرتفع الشعور بالخوف من انشغال القوى الكبرى بأزماتها الداخلية على حساب البركان الذي يهزُّ الشرق الأوسط. رغم أن هنالك من يعتقد خلاف ذلك، وبأن خارطة الشرق الأوسط مفتوحة برمتها على الطاولة، حيث تجري إعادة رسم النفوذ السياسي فيها، وهذه الأزمات الكبيرة قد تدفع بهذه العواصم إلى تدوير الزوايا لتمرير الحلول لا العكس. ومن هنا، صارت الاغتيالات والتصفيات السياسية في الداخل السوري التي يتلقاها النظام جزءاً من مسيرته العرجاء، ضمن حسابات خارجية في تقوية النفوذ بين القوى الكبرى داخل سوريا، ومحاولة الاستفادة قدر الإمكان من حال الضعف لدى النظام في دمشق، وهو ما ظهر للعلن في الحادثة المبهمة لمستشارة رئيس النظام السوري الإعلامية لونا الشبل، ما يدل على صراع لبسط النفوذ بين روسيا وإيران في هذه المرحلة المفصلية. إذ كسبت إيران الكثير من النقاط الثمينة رغم فقدان نفوذها في غزة، وعملت طهران بقوة على تمتين ساحات اليمن ولبنان والعراق وسوريا، وعملت على تكريس هذا النفوذ لانتزاع اعتراف واشنطن به، والتحضير للمعادلة الجديدة للصراع المقبل لمرحلة ما بعد غزة.

شبكة المصالح الدولية في سوريا بدأت بالتقاطع. واشنطن بدورها تخشى في هذه المرحلة من إضعاف الحضور الإيراني أكثر، كي لا ينعكس ذلك على تماسك الدولة السورية والذي سيؤدي حتماً إلى الفوضى العارمة.

أما الموضوع الكردي، فقد تحول عبئاً ثقيلاً على نظام دمشق ومحوراً أساسياً في المشاورات التي تجرى حول الملف السوري. صار أكراد سوريا يشكلون أزمة حقيقية لأنقرة، التي تخشى أن يمهّد الفراغ في سلطة دمشق لانفصال الأكراد أو استقلالهم، أو أن تتحول المنطقة الكردية في سوريا إلى ملاذ آمن لحزب العمال الكردستاني، يستغلّه لضرب تركيا في عمقها. خاصة بعد إعلان "الإدارة الذاتية" لقوات قسد نيتها إجراء انتخابات محلية في 11 حزيران الماضي في المناطق الخاضعة عسكرياً لسيطرة الأكراد في الجزيرة والرقة ودير الزور ومنبج والطبقة، ومقاطعة الفرات في شمال شرقي البلاد. على الرغم من تراجعها عن قرارها وإعلانها تأجيله في ظل الضغوط الكبيرة التي مورست ضدها، فقد كان ذلك بمثابة قنبلة وصلت أصداؤها إلى كل من أنقرة ودمشق. كان هذا القرار مصدر قلق للنظام السوري والعشائر العربية وزرع الخوف في الائتلاف الوطني السوري المعارض، خشية فقدان دوره وأن يكون أول ضحايا التغيير، وبث الذعر في أنقرة التي تخشى نقل عدوى أكراد سوريا إلى أكرادها في مناطقها الجنوبية الشرقية، وكذلك دفع موسكو إلى التلويح بالانسحاب من الاتفاق الأمني المبرم بين الأكراد ودمشق. لذلك، جاء الحديث عن إجراء انتخابات لأكراد سوريا ليحرك المياه السياسية الراكدة في سوريا، ويعيد الحيوية إلى المحادثات التركية الروسية، بعد تصعيد اللهجة من أنقرة والتلويح بالخيار العسكري لمنع إقامة دويلة كردستان سوريا. تكثفت الأنباء عن عودة المساعي الروسية من جهة، والعراقية من جهة أخرى، للتوسط بين دمشق وأنقرة.

التطبيع التركي مع النظام السوري

من هذه الزاوية تجب قراءة التقارب المستجد الذي يقوم به الرئيس التركي باتجاه دمشق. تبدو أنقرة وكأنها تحاول تكريس دور لها لتثبيت حضورها كلاعب أساسي في المرحلة المقبلة، طالما أن شروط وأوراق اللعبة تسمح لها بذلك، حتى لو جنحت المنطقة نحو خيار توسع دائرة الحرب، وهو احتمال ضعيف. تركيا ستعمد إلى ملء الفراغات والبحث عن دور من خلالها. تعتقد أنقرة أنه كلما تفاقم الصراع مع إسرائيل، ستبدو إيران وكأنها اللاعب الإقليمي الوحيد، مما يعني أن هناك حاجة أميركية وغربية وروسية لقوة توازن مع إيران، وهو ما سترحب به الدول الخليجية وروسيا على السواء.

التقارب الذي يعمل له أردوغان باتجاه الأسد يضمنه ويدعمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خاصة من خلال الدور الذي لعبته موسكو من خلف الكواليس لحماية قرار دمشق بعدم الانزلاق في حرب غزة والوقوف على الحياد. موسكو تريد المحافظة على الاستقرار الهش بصيغته الحالية في سوريا، وعدم فتح الأبواب أمام خروج الوضع عن السيطرة لخلق ظروف تسمح بتوسيع نفوذ إيران أو إسرائيل، وتريد في الوقت نفسه إضعاف الحضور الإيراني في سوريا ضمن معايير معينة، وهو ما يفسر غض النظر عن الاستهداف الجوي الإسرائيلي لكوادر إيرانية رفيعة ومواقع عسكرية أساسية داخل سوريا.

إذن، فشبكة المصالح الدولية في سوريا بدأت بالتقاطع. واشنطن بدورها تخشى في هذه المرحلة من إضعاف الحضور الإيراني أكثر، كي لا ينعكس ذلك على تماسك الدولة السورية والذي سيؤدي حتماً إلى الفوضى العارمة. من هذه الزاوية وُجد التقاطع الدولي الذي شجع روسيا وكذلك الولايات المتحدة لضمان الحراك التركي تجاه النظام في دمشق. بالمقابل، فإن لتركيا وزناً كبيراً داخل حضور الإخوان المسلمين وفصائلهم، مما يمنحها قدرة تكوين حائط صد بوجه تمدد إيران داخل الجسم السني، انطلاقاً من حرب غزة وتركيبة حماس. ربما هذا ما دفع أردوغان للقول إنه ليس هناك من سبب لعدم إقامة العلاقات مع النظام.

أخيراً، تأتي كل هذه التطورات وكثير غيرها لتعزز الرأي القائل بأن الأزمات الداخلية الكبرى للمثلث الدولي في واشنطن وباريس وطهران، سيفرض حتماً عدم وضع ملف الشرق الأوسط جانباً. لا بل على العكس، سيؤدي إلى بعض المرونة لإقفال ملفات، والتفرغ للأزمات الداخلية الخطيرة وسط تصاعد موجة اليمين على المستوى العالمي. وهو ما قد يفسر انخفاض الحماوة التي سادت جبهة جنوب لبنان خلال الأيام الماضية، وإعادة طرح المفاوضات بين حماس وإسرائيل من جديد في الدوحة، مترافقاً مع تبدل في لهجة المسؤولين الإسرائيليين من التهديد بالحرب والدمار، إلى الجنوح باتجاه التسوية كما ورد على لسان نتنياهو وغالنت.