لا يخال أحدٌ أن ما يمرّ به الكاتب، بوصفه شخصية ذات تقاليد ذاتية أو عامة منضبطة أو تكاد بالضرورة لخلق منتج إبداعي فريد، إنما يختلف بأي شكل من الأشكال عمّا يعيشه العالم من تحولات عاصفة بكل شيء، ولا ضرورة للقول "تقريباً"، لأن التغيير يطال كل شيء بالفعل ودون استثناء.
لكن هل يدرك أحدٌ طبيعة الحال التي يعيشها الكاتب، شاعراً أو روائياً أو قاصاً أو دارساً، في ثنايا ما يسمى بـ "الديجتال إيرا"؟ هذا العصر الذي يتطلب من المثقف كمؤثر أن يتماهى مع صورة المؤثر الحالية، تيكتوكر أو يوتيوبر أو إنستا، وسوى ذلك من المذاهب في ما عرفت بوسائل التواصل الاجتماعي التي خلقت لتحل محل التواصل الأدبي.
إن اللحظة المحيّرة التي يمرّ بها الكاتب، فتجعله ينزلق نحو "البث المباشر"، ونحو ازدراء اللغة ببذلها واستهلاكها وجعلها مادة متاحة لكل من هبّ ودبّ، فيرفع المنصوب ويجزم المرفوع ويؤنث ويذكّر على هواه، حتى بات من من غير المعيب والمخجل أن تسمع أن أديباً "لامعاً" يحتاج إلى مصحح لغوي من بعده، أو صحفياً "جيداً" ولكنه ضعيف في اللغة! وكل هذا بسبب تحويل اللغة إلى أداة تعبير عبر وسائل التواصل في الفيسبوك وتويتر (X) أو غير هذه الجسور المهشمّة التي لا توصل إلى شيء.
لا يمكن تخيّل كاتب يكثر الظهور، ثم بعد ذلك يتوقع من قرائها أن يشعروا بالدهشة عند صدرو عمل أدبي جديد له في كتاب، فيما الدهشة والمفاجأة عنصران أساسيان من عناصر بضاعة الكتّاب.
حتى مع ما يمكن أن نعتبره تحوّلاً رقمياً في يوميات الكاتب، بوسعنا أن نفكّر ونطيل التفكير في الكيفية التي ينظر الكاتب عبرها إلى نفسه اليوم، بعد أن بدأ يفقد إيمانه بجوهرته الأوليّة "الكتاب"، والذي تحوّل هو الآخر من عهده الطويل مع الورق والأحبار إلى ملف إلكتروني وداتا وبايتات مجمّعة إلى جانب بعضها البعض.
***
لم يتوقف الأمر على الكتاب وحسب، ومن قبله اللغة، والحضور، بل إلى الخيال ذاته، "عصا موسى" الكاتب وسحره ومنتهاه. إذ مع تكاثر الإنتاج اللغوي عبر وسائل التواصل، من خلال المنشورات والتغريدات وسواها، تدفق خيالٌ جديد، تسونامي من الصور، لم تعد تسمح للكاتب إن كان يحترم موهبته ويحاسبها ويصقلها باستمرار، بتقديم صور وسرديات (مستعملة) تم استخدامها من قبل على حساب أحد المستخدمين في تلك الوسائل الرجيمة. ولهذا تكاثرت بكتيريا أدبية لا قيمة حقيقية لها، بالتوازي مع شحّ في المنتجات الأصيلة التي ترى النور لأول مرة.
ربما ذهب كتّاب إلى الانحناء ريثما تمرّ العاصفة، لكن هذا الانحناء "زمنٌ أدبي" سيكون قد ضاع بضياعه الكثير من إدراك اللحظة وتحديث المحتوى ومواكبة التحولات، ما يجعل النص من بعده عملاً "بائتاً" لا حرارة فيه
دعك من الآداب والفنون، فليس أصحابها وحدهم من يشكون من صروف هذا العصر وهزاته العنيفة، بل حتى المؤسسات المختلفة ذات التخصصات غير الإبداعية أخذت ترفع صوتها بالإنذار باللون الأحمر، ولم يكد العام الماضي 2023 يمضي حتى تم إعلان مخاطر عديدة تهدّد عمل المؤسسات بسبب التحوّل الرقمي في مقدّمتها "نقص المواهب"، ومن بين أبرزها "عدم التوافق مع أهداف العمل"، و"مقاومة التغيير"، و"فقدان الميزة التنافسية"، ناهيك عن "تهديدات الأمن السبراني"، و"تعطّل نماذج الأعمال القديمة" والكثير الكثير من مخاطر إبعاد الإنسان عن الإبداع، والاستسلام لقيم "الديجتال إيرا" (العصر الرقمي).
ولو أخذنا واحدة فقط من تلك المخاطر وهي "تعطّل نماذج الأعمال القديمة" فسنجد أن كارثة كبرى ستحل بالآداب العربية، والعالمية، إذا تم التراخي مع ما تعنيه كلمة "تعطّل"، النماذج القديمة في الآداب هي الأصول الكبرى، وهي الأنظمة التي قادت الشعر والرواية والقصة والمسرحية إلى هذه اللحظة، وبتعطّلها فأنت تنسف ما تقف عليه وتطلق النار على قدميك، وعلى عكس ما كان يدور حتى ثمانينات وتسعينيات القرن العشرين من صراع في الشعر بين الحداثة وما بعد الحداثة، بين الجديد والأكثر جدّة منه، اليوم تخفف المشهد من الصراع وأصبح الهدم حدثاً جارياً حتى بلا أبطال ومجددين.
وبفقدان الميزة التنافسية بين الأدباء سيُهزم الأدباء جميعهم، وينتصر التيكتوكر واليوتيوبر ويصعد النص الفارغ إلى الأعلى.
لا تقل لي إن الكاتب لا يشعر بهذه الأزمة. بل إنها تطارده ليلاً نهاراً، وتحاصر تفكيره وهواجسه، وقد يختار، بديلاً عن مواجهتها، الانخراط في العلاقات العامة لترويج نصوصه، لأن النص وحده لم يعد قادراً على الصمود في أوضاع كهذه، بشروطه ومواصفاته الخفيفة التي نشهدها.
***
ربما ذهب كتاب آخرون إلى الانحناء ريثما تمرّ العاصفة، لكن هذا الانحناء "زمنٌ أدبي" سيكون قد ضاع بضياعه الكثير من إدراك اللحظة وتحديث المحتوى ومواكبة التحولات، ما يجعل النص من بعده عملاً "بائتاً" لا حرارة فيه.
أما الذين يقاومون وحشية الديجتال إيرا وما ينتج اليوم عن أدوات الذكاء الاصطناعي، بتقاليد صارمة، فهم الآن في مصاف حرّاس الآثار والهياكل القديمة، وهذه المهمة، جليلة بما يكفي لدفع الكاتب إلى الشعور بأنه يحرس قيمة رفيعة جديرة بالحماية من التآكل، لكن أليس هذا ما عاشه أسلافنا في عصور مضت أطلقنا عليها عصور الانحطاط؟. حين كانت حراسة القيمة، تواجه الرداءة في الكتابة والخيال واللغة، وانتهت تلك المواجهة إلى زمن انتصرت فيها الجودة والأدب الرفيع على الكلام الفارغ.
ولا بأس من التذكير بالفرنسي ريمي ريفيل، الذي نشترك معه في أن القلق الثقافي من الديجتال إيرا ليس بالضرورة ديستوبيا كارثية، فالرقمي ليس إلّا وسطاً يتعايش فيه الإنتاج "الثقافي" مع الإنتاج "التكنولوجي"، وليس علينا أن نهمل واحداً من هذين القطبين عند التأمل في ثقافتنا المعاصرة.
ومن بشائر ريمي اعتباره لوسائل التواصل الاجتماعي مجرّد وسائل اتصال جماهيري تشبه ما فعله ظهور التلفزيون في القرن الماضي، وتأثيرها سيشمل حقول النشاط الإنساني كلها، لكنه لن يقضي عليها. بل سيترك التسوق الاليكتروني بدلاً عن المكتبات، والمواقع الإخبارية بدلاً عن الصحف والموسوعات والقواميس الالكترونية بمقابل المرجعيات الثقافية الكبرى، وقد تنظّم حياتنا مهنيّاً، وتزيد من ترفيهنا، عبر الموسيقى التي أضحت متاحة بـ "كليك" سريع، عوضاً عن حضور الحفلات أو البحث عن الأسطوانات القديمة.
الصراع الذي يدور، والذي أشارت إليه السطور أعلاه، ليس بمعزل عن صراع الشعوب على الحرية، وصراع الديكتاتوريات على البقاء، وصراع القوى على النفوذ والطاقة والاقتصاد، هو الصراع ذاته، منعكساته وظلاله، وما سينتجه من مخرجات ستصب في خدمة بقية القضايا الموازية التي لا تبدو مرتبطة به لأول وهلة، وسوف تجيبك عن أسئلة من نوع؛ هل نقطع مع الماضي كل القطع، أم نبقي شعرة معاوية؟ هل نقطع مع مؤسسات وصفناها بالتقليدية البالية كل القطع أم نحافظ على بعضها لأن قدر كثير من القيم أن تبقى "مُحافِظة" لتتيح لغيرها أن تتنفّس هواء التجديد؟