ما خطر في بالنا أبداً نحن الأدالبة أن نسمع اسم "إدلب" في وسائل الإعلام ونشرات الأخبار العالمية، أو أن تدخل مجال دائرة متابعة واهتمام، فأصبح همّنا التفكير في "الانتخابات الرئاسية الأميركية"!.
عقود قبل وبعد أن تصبح هذه المنطقة من الجغرافيا محافظةً سوريةً، اقتصر تفكيرنا أو اهتمامنا على مسألتين: التعليم والزيتون، هكذا.. ننتظر نتائج امتحانات أولادنا الأعزّاء في الصيف، وفي الشتاء نتائج معاصرنا القريبة القديمة، مجتمع بسيط، لا شركات تجارية أو معامل صناعية، ولا منظّمات أو مخيّمات!.
وإن لم تفرّق "الثورة السورية العظيمة" بين السوريين الذين تبنّوا هدف الحرّية والكرامة بالمظاهرات السلمية ثمّ بالمقاومة المسلّحة المصحوبة أو المفترقة عن المسارات السياسية التي انبثقت هنا وهناك، لكنّ النتائج التي تمخّضت في "إدلب" كانت مختلفةً، فلقد عاشت هذي المحافظة المنسية مراحل متناقضة الأشكال منذ اندلاع الثورة، حتّى لا يمكن التنبّؤ بطقس غدٍ ما أو برياحه، تبدّل الطقس كثيراً وتقلّبتِ الرياح بشدّة، حتّى أصبحت "إدلب" في قلب الحدث السوري وعين عواصفه.
ملخّص إدلب والثورة
واكبت "إدلب" الثورة السورية منذ البداية، ثمّ بدأت المواجهات المسلّحة مع النظام، وبحلول شباط 2012 استطاع النظام شنّ حملة عسكرية واسعة مكّنته من السيطرة على مدينة إدلب، حتّى تمكّنتِ المعارضة المسلّحة من السيطرة على مُدن "إدلب" و"أريحا" و"جسر الشغور"، لتخرج المحافظة بالكامل في آذار 2015 عن سيطرة النظام، وتستقرّ سيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، فتصبح اللاعب الأساسي في كلّ المحافظة، ولتبدأ مباعث أو مزاعم القلق الدولي من تحوّل المنطقة إلى ملاذ للإرهاب، فيستمرّ التصعيد العسكري منذ 2019 ويسفر بعد آذار 2020 عن استعادة النظام بمساعدة حلفائه لأجزاء كبيرة من المحافظة، حتّى تمّ الاتّفاق الظاهري بين "روسيا" و"تركيا" على وقف إطلاق النار والحملة العسكرية، لكنّ العمليات استمرّت على الجبهات كما استمرّ قصف الطيران الروسي في أوقات كثيرة.
منذ بداية الثورة وحتّى الآن، دفع السوريون في "إدلب" أثماناً باهظةً من الشهداء والجرحى والمعتقلين والمفقودين والمهجّرين، وأصبحت محافظة إدلب موطناً للسوريين المعارضين الفارّين من الحرب وبطش النظام من كلّ مكان في "سوريا"، وليتضاعف عدد السكّان وتنتشر مخيّمات النزوح وتتفاقم المعاناة في ظلّ ظروف إنسانية مؤلمة، مع بنىً تحتية مدمّرة أو ضعيفة وموارد اقتصادية محدودة وأوضاع أمنية وسياسية وإدارية لم تعرف الاستقرار يوماً.
الآن يعود الجمهوريون إلى الرئاسة بنفس الرئيس الذي خال العالم أنّ عهده قد انقضى إلى الأبد!
جمهوري وديمقراطيان
إدارتان أميركيتان توالتا على البيت الأبيض بل والعالم منذ اندلاع الثورة السورية، وما زالت "إدلب" خائرةً منكوبةً، فمن اشتعال إلى احتراق ومن دمار إلى خراب، وقد تراها الأعين منطقة حيوية ونشاط وإصرار، لكنّما تعبُ الناس وفقرهم وأوجاعهم الدامية هو الرجع اليومي الدائم، كما ودوام الخوف من المستقبل!.
تبنّت إدارة "باراك أوباما" 2009-2017 ومنذ بداية الثورة السورية سياسةً داعمةً علناً حذرةً دائماً وغير مجدية أبداً تجاه الثورة، وأعلنت عن دعمها بالسلاح (غير الفتّاك) لفصائل المعارضة السورية المسلّحة، ودعمها الدبلوماسي للمعارضة السورية السياسية، وفرضت عقوبات على النظام، لكنّها لم تتدخّل عسكرياً بشكل مباشر، وركّزت -كما زعمت- على محاربة "داعش"، ما أدّى إلى تشتيت الاهتمام عن "إدلب" وغيرها، كما قالت إنّها تدعم كلّ جهد دولي وإقليمي لإيجاد حلّ سياسي عبر "محادثات جنيف"، ولم تغيّر إدارة "جو بايدن" من هذه السياسات العقيمة شيئاً سوى إعادة تقديم المساعدات الإنسانية التي كان "دونالد ترامب" 2017-2021 قد خفّضها إلى أقصى الحدود.
جمهوري بين ديمقراطيين كان "دونالد ترامب" العائد الآن عودةً تاريخيةً إلى السدّة العالمية، فلقد تعاقب منذ اندلاع الثورة السورية وحتّى الآن ثلاثة رؤساء لثلاث إدارات أميركية، "أوباما" الديمقراطي، "ترامب" الجمهوري، ثمّ "بايدن" الديمقراطي، والآن يعود الجمهوريون إلى الرئاسة بنفس الرئيس الذي خال العالم أنّ عهده قد انقضى إلى الأبد!، والسؤال: هل أحدثت سياسات "ترامب" الجمهوري خلال فترة رئاسته الأولى فوارق تُذكر عن سياسات "أوباما"؟، ثمّ وهل اختلفت سياسات "ترامب" عن سياسات "بايدن" نائب "أوباما" السابق والرئيس الحالي "بايدن"؟، والجواب هو الواقع، فإدارة "ترامب" السابقة استمرّت بل واستمرأت الادّعاء بتركيزها على محاربة "داعش"، قامت بتوجيه ضربات محدودة وسخيفة ضدّ النظام بعد استخدام السلاح الكيميائي في "خان شيخون" نيسان 2017، دعمت إعلامياً "قانون قيصر"، وأبقت دورها العسكري محدوداً في الصراع السوري وخاصّةً في "إدلب"، فما الجديد الذي قد يقدّمه "ترامب الآن؟، ما الفارق الذي يمكن أن يحدثه رجل لم يُحدث أيّ فارق قبلاً وقد كان بإمكانه؟.
قلّص "ترامب" خلال رئاسته 2017-2021 الوجود العسكري الأميركي في "سوريا" بالانسحاب الاستراتيجي والتدريجي، مع استهداف واضح وعلني لدور قوّات المعارضة السورية (المعتدلة) مع ادّعاء دعمها والعمل على تأهيلها، وكانت الذريعة هي التركيز على محاربة الإرهاب ممثّلاً بداعش، ومع ذلك تمّ سحب القوّات الأميركية من شمال شرقي "سوريا"، رغم المزاعم الأميركية بدعم قوّات "قسد" لأنّها تحارب "داعش"، وبنفس الذريعة لم تهتمّ الإدارة الأميركية بأوضاع "إدلب"، إضافةً إلى ذريعة أُخرى وهي التركيز على مواجهة النفوذ الإيراني في الشمال السوري، ولقد قال "ترامب" بعد اكتمال سحب القوّات الأميركية في أكتوبر 2019: (لقد هزمنا داعش في سوريا، وهذا هو السبب الوحيد لوجودنا هناك).
يبدو أنّ توقّع مستقبل "إدلب" بل والعالم بعد فوز "ترامب" لن يكون أمراً سهلاً، وسيعتمد على الكثير من العوامل والمتغيّرات الإقليمية والدولية، ومع تاريخ "ترامب" السياسي والنفسي وسياساته المتقلّبة تجاه بعض قضايا الشرق الأوسط والتي لم تكن مجديةً، لكنّما قد يمكن الحديث عن عهدين أو رجلين "ترامب الأوّل" و"ترامب الثاني"، وقد تحدث فوارق مهمّة بين سياساتهما، نحو الأفضل أم الأسوأ يا ترى؟، ما الذي يمكن أن تنتظره "إدلب" في عهد "ترامب"؟.
لن تكون "إدلب" ضمن أولويّات الإدارة الأميركية ديمقراطيةً أو جمهوريةً، ترامبيةً قديمةً أو جديدة، إلّا من خلال مصلحة أميركية مباشرة في التعامل مع هذا الملفّ وغيره من الملفّات العالقة في الشرق الأوسط، بل في العالم كلّه!.
سيناريوهات
قد يؤدّي استمرار "ترامب" وإدارته بسياسة الانعزال أو الحياد تجاه "إدلب" والابتعاد عن التدخّل المباشر إلى استمرار إعطاء الضوء الأخضر للنظام وحلفائه لمواصلة المواجهة مع المعارضة السورية المسلّحة في المنطقة ومعظمها من الفصائل الإسلامية المصنّفة دولياً تحت مظلّة الإرهاب، وقد تمارس الإدارة الأميركية ضغوطاً دبلوماسيةً لتخفيف الآثار عن المدنيين، وتقديم المساعدات الإنسانية لهم، ولقد جرت الأمور في العهد الأوّل لترامب على هذا المنوال.
أمّا إن رأت إدارة "ترامب" الجديدة أنّ المصالح الاستراتيجية الأميركية في المرحلة القادمة تقتضي زيادة الضغط على "تركيا" لتقوية شوكة "قسد" في الشمال السوري والإبقاء على الأوضاع الراهنة في "إدلب"، فقد تستمرّ في دعم الفصائل الكردية المسلّحة وفرض عقوباتها على "موسكو"، وعلى العكس.. فإن كان ما يخدم المصالح الاستراتيجية الأميركية هو تعزيز التعاون مع "أنقرة" من أجل الحدّ من تدفّق اللاجئين إلى دول الاتّحاد الأوروبّي خدمةً لأعضائه وتحسيناً للعلاقات الأوروبية الأميركية مثلاً، فقد تسعى إدارة "ترامب" إلى دعم النفوذ التركي في الشمال السوري وتشجيع دوره في "إدلب"، أو كان ما يخدمها هو مجاملة الروس لتقليص حربهم على "أوكرانيا" مثلاً، فستظلّ سماء "محافظة إدلب" بالتحديد مشرعةً أمامهم للقضاء على العدوّ المشترك "الإرهاب الإسلامي".
في كلّ الأحوال ومهما كانت توجّهات سياسات ترامب -إن كان لها توجّهات أصلاً- فستتأثّر بالكثير من العوامل، داخلية تتعلّق بالأوضاع الأميركية والقضايا الداخلية كالاقتصاد والهجرة، وكلّما زاد التركيز على المشكلات الخاصّة قلّ التركيز على العامّ منها، فهل ملفّ "سوريا" أهمّ من ملفّ الحدود المكسيكية؟. ومن هذه العوامل ما هو خارجي كالشأن الإيراني والشؤون العربية والتركية والإسرائيلية بالتأكيد، مجتمعةً كانت أو مرتبطةً أو منفردة، كيف ستكون العلاقات الأميركية -بالأحرى المصالح- مع دول الشرق الأوسط ومع الكيانات الموازية للدول التي تسعى للنشوء أو التي نشأت فعلاً كما في شرق الفرات وفي "إدلب"؟، طبعاً وسبب حصر الحديث عن "روسيا" و"تركيا" هو أنّهما القوّتان الشرعيتان الفاعلتان في الشمال السوري بعيداً عن أيّة قوى غير شرعية.
سيبقى تعامل "ترامب" أو "ترامب الجديد" محدوداً مع ملفّ "إدلب"، وفي الحالتين.. حالة التركيز على مصالح "أميركا" الداخلية أو في حالة التركيز على مصالحها الخارجية، لن تكون "إدلب" ضمن أولويّات الإدارة الأميركية ديمقراطيةً أو جمهوريةً، ترامبيةً قديمةً أو جديدة، إلّا من خلال مصلحة أميركية مباشرة في التعامل مع هذا الملفّ وغيره من الملفّات العالقة في الشرق الأوسط، بل في العالم كلّه!.
سيترك كلّ هذا آثاره إيجابيةً كانت أو سلبيةً على المعارضة السورية بأشكالها وأطيافها، وقبل ذلك كلّه وأهمّه على الناس، على السوريين بأشكالهم وأطيافهم من أهل "إدلب" القدامى وأهاليها الجدُد، فلا يدفع أثمان المصالح السياسية وعلاقات التحالف والتآمر والتخاذل عن قضايا الشعوب سوى الشعوب نفسها، مثل شعب عاش ينتظر مواسم امتحانات الطلبة ومواسم عصر الزيتون، فصار ينتظر موسم "انتخاب ترامب"!.