إسرائيل.. لماذا لا تكتب دستورها؟

2024.10.04 | 06:04 دمشق

654545454545454
+A
حجم الخط
-A

عدد قليل من الدول حول العالم ما زالت من دون دساتير مكتوبة وبشكل أدقّ دساتير مكتوبة كنصوص موحّدة وشاملة لجميع العناصر والقواعد التي ينبغي أن يحتويها دستور الدولة، ويمكن حصر هذه الدول في الوقت الحالي بالمملكة المتّحدة، كندا، نيوزيلاندا، سان مارينو، موناكو ، السعودية والأردنّ وعُمان إلى حدّ ما، لكنّ النموذج الأكثر وضوحاً وتعبيراً عن حالة "الدستور غير المدوّن" هي ما يُدعى بدولة "إسرائيل".

الدساتير أعلى قوانين الدول على مختلف أنظمتها، فدستور أيّ دولة هو التشريع الذي يحدّد القواعد الرئيسة لشكل الدولة وشكل سلطاتها ونظام الحكم فيها، وينظّم تكوين هذه السلطات وصلاحياتها وحدودها، كما ينظّم العلاقات بينها، ويوضّح الواجبات الأساسية للأفراد أو الجماعات وحقوقهم وضماناتها، كما ويضع الدستور الأسس التي تستند إليها القوانين الوطنية في الدولة.

كان الأصل عند وضع الدساتير كتابتها وتدوينها وحفظها وإشهارها للعلن كي يتمكّن جميع المعنيين بالقواعد والأصول المتّفق عليها بشكل ما، من معرفة حدود السلطات والعلاقات والحقوق والواجبات، ولتوخّي الدقّة والتحديد، ولبيان المفاهيم الرئيسة التي بُنيَت أساساً بالاعتماد على العقد الاجتماعي الذي يُعنى عموماً بتوضيح مدى شرعية سلطة الدولة على الأفراد.

الدساتير الوطنية بين التدوين وعدم التدوين

إن كان الدستور المكتوب يتضمّن القواعد والأحكام المكتوبة التي تحدّد صفات الدولة وعلاقات سلطاتها وتحدّد حقوق وواجبات مواطنيها، فإنّ الدستور غير المكتوب أو غير المدوّن هو مجموعة الأعراف والتقاليد والتشريعات والقضايا والسوابق القضائية التي جرى اعتمادها لتكون بمنزلة مرجع ينوب عن القواعد والأحكام المفترض أن يتضمّنها الدستور في وثيقة واحدة محدّدة وواضحة.

يضمن الدستور المكتوب تحديد حقوق المواطنين وواجباتهم بشكل واضح وصريح، ما يوفّر الحماية القانونية ضدّ انتهاكات السلطة، ويشكّل وثيقةً مرجعيةً للقوانين عند تنازعها ويساعد على توحيدها وفهمها، ويعزّز الاستقرار السياسي للدولة بتنظيم صلاحيات وعلاقات السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية فيها، كما ويعزّز الهوية الوطنية من خلال إقرار رسمي لقواعد توافقية ومشتركة بين الجميع تبيّن كيفية إدارة الشؤون العامّة وضمان المشاركة السياسية وحماية العملية الانتخابية، وكذلك ضمان وجود آليات مدروسة للتعديل كي تتكيّف أحكام الدستور مع التغيّرات وتستجيب للتحدّيات والمستجدّات بطريقة واضحة ومنتظمة، أيضاً وفي تأكيد توافق هذه الأحكام مع المعايير الدولية والالتزامات تجاه المعاهدات والاتّفاقيات الخارجية وحقوق الأجانب في الدولة.

بعد عام وفي 11 أيار 1949 استطاعت "إسرائيل" الحصول على قرار الجمعية العامّة للأمم المتّحدة رقم 273 القاضي بقبول عضوية "دولة إسرائيل" كدولة محبّة للسلام!

"إسرائيل" دولة من دون دستور أم من دون دستور مكتوب؟

الكيان الذي أعلن في 14 أيّار 1948 قيام "دولة إسرائيل" من خلال ما دُعي بوثيقة استقلال إسرائيل التي برّرت هذا الإعلان بمزاعم تاريخية تتحدّث عن صلة الشعب اليهودي بأرض أجداده في أرض إسرائيل، وبمبرّرات طبيعية تخلص إلى حقّ الشعب اليهودي في أن يكون له دولته المستقلّة شأن شعوب العالم، كما واستند إعلان الاستقلال هذا إلى ما اعتبره حججاً قضائية وقانونية ودولية كان من أهمّها "وعد بلفور"!.

بعد عام وفي 11 أيار 1949 استطاعت "إسرائيل" الحصول على قرار الجمعية العامّة للأمم المتّحدة رقم 273 القاضي بقبول عضوية "دولة إسرائيل" كدولة محبّة للسلام-كما جاء في نصّ القرار- وراضية من دون تحفّظ منها بكلّ الالتزامات الواردة في ميثاق الأمم المتّحدة، وتتعهّد بتطبيقها فور نفاذ عضويتها، وخاصّةً بتطبيق قرار الجمعية العامّة 29 تشرين الثاني 1974 بخصوص تقسيم فلسطين، وقرارها في 11 كانون الأوّل 1949 القاضي بحقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين، وبالطبع لم يتمّ تطبيق أيّا من هذين القرارين ومئات القرارات الأخرى التي صدرت عن الأمم المتّحدة من جمعيتها العامّة أو مجلس الأمن حتّى الآن، لكن سيتمّ التعامل مع "إسرائيل" بموجب القوانين الدولية التي لا تطبّقها وبموجب السياسات وقرار قبول عضويتها في الأمم المتّحدة، كدولة مستقلّة ذات سيادة واعتراف قانوني رسمي، وستبقى الشرعية الدولية هاجساً ماثلاً أمام "إسرائيل".

إعلان الاستقلال وقوانين الأساس، بدائل دستورية؟

لم يكن إعلان الاستقلال الإسرائيلي عام 1948 بمنزلة دستور، ولكنّه كان وثيقة تأسيسية هامّة وضعت الأساس القانوني لقيام إسرائيل، وتضمّنت مبادئ أساسية عن هوية الدولة وحقوق مواطنيها، لكنّ هذه الوثيقة لم تكن ملزمةً قانونياً كالدستور، ولم تُعتمد كوثيقة دستورية رسمية، فلقد غابت عنها التفاصيل القانونية والسياسية الأساسية للدولة المزعومة كتفاصيل تنظيم السلطات وكيفية ممارسة الحكم وآليات تعديل القوانين وغير ذلك ممّا ينبغي لدساتير الدول أن تحدّده.

في 1950 اتّخذت الجمعية التأسيسية الإسرائيلية وبناءً على اقتراح عضو الكنيست "يسرائيل هاراري" قراراً بتأجيل صياغة دستور مكتوب على أن يتمّ إصدار جملة من القوانين الأساسية المتنوّعة (Basic Laws)، ويمكن القول بأنّها مجموعة التشريعات التي سُنَّتْ منذ قيام "إسرائيل" لتغطّي مواضيع محدّدة تتعلّق بتنظيم الحكومة، حقوق المواطنين، السلطات القضائية

والتشريعية والتنفيذية، ولقد اعتبرت هذه القوانين ذات طبيعة خاصّة لأنّ الهدف النهائي هو دمجها لاحقاً في دستور شامل حال التوصّل إلى توافق حول صياغته، ومن الملاحظ بوضوح بشأن تواريخ إصدار القوانين الأساسية تباعد المدة الزمنية بينها، فلقد صدر قانون الكنيست سنة 1958، قانون أساس رئيس الدولة في 1964، قانون أساس الحكومة في 1968، قانون أساس الجيش 1976، قانون أساس القضاء 1984، قانون أساس حرّية الإنسان وكرامته وقانون أساس حرّية العمل في 1994، ثمّ وفي 2018 صدر قانون الأساس الذي اعتبر "إسرائيل" دولة قومية للشعب اليهودي طابعها يهودي ولغتها الرسمية هي العبرية، القانون الذي أثار جدلاً واسعاً خاصّةً فيما يتعلّق بحقوق الأقلّيات غير اليهودية، فقد حصر هذا القانون ممارسة حقّ تقرير المصير في دولة إسرائيل بالشعب اليهودي وحده.

إن تدوين الدستور يعني تحديد حدود "الدولة"، ما يخالف سياستها وعقيدتها التوسّعية كما عبّر عن ذلك "بنيامين نتنياهو" رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي.

أسباب عدم التدوين

قد يمكن تحديد أهمّ الأسباب التي أدّت إلى عدم اعتماد "إسرائيل" على دستور مكتوب بهذه المسائل:

- خلافات قديمة متجدّدة منذ قيام "إسرائيل" وحتّى الآن حول كيفية التوفيق بين دولة يهودية وديمقراطية في نفس الوقت، فكيف يمكن لدستور يؤكّد على هوية دينية أو إثنية لدولة ما أن يعتبرها دولةً ديمقراطية، بل كيف يمكن أصلاً إنشاء دستور يحصر ممارسة حقّ تقرير المصير في الدولة بفئة معيّنة من مواطنيها؟.

- يرى اليهود المتديّنون وخاصّة في الأحزاب المتشدّدة مثل حزبي "شاس" و"يهودوت هتوراه" أنّ صياغة دستور مكتوب يتعارض مع الشريعة اليهودية (الهالاخاه)، وأنّ إدخال مبادئ دستورية ديمقراطية ستضع قيوداً على هذه القوانين.

- مشكلات تتعلّق بحدود الدولة وسيادتها خاصّةً فيما يتعلّق بالأراضي العربية المحتلّة بعد 5 حزيران 1967 كالضفّة الغربية والقدس والجولان، وأنّ إيجاد دستور مكتوب يعني بالضرورة تعريفاً واضحاً ودقيقاً لحدود الدولة.

- أصبح الاعتماد على قوانين الأساس في "إسرائيل" تقليداً متّبعاً عبر عشرات السنوات، باعتبارها الإطار أو البديل الدستوري عن الدستور المدوّن..

- تؤثّر التركيبة السكانية والمجتمعية المعقّدة في "إسرائيل" والمكوّنة من اليهود والعرب على اختلاف خلفياتهم الدينية والإثنية والأيديولوجية في وجود سبب آخر لعدم الاتّفاق.

- تواجه "إسرائيل" منذ إنشائها تحدّيات أمنية مستمرّة، سواءً من الدول المجاورة أو الجماعات المسلّحة، ولقد أثّر هذا الوضع الأمني على ترتيب الأولويات، إذ أصبح التركيز على الاستقرار الداخلي والمجهود الحربي أهمّ من المسائل السياسية والقانونية التي تستوجب صياغة دستور.

- الإرث البريطاني، بتبنّي نمط مشابه للأصل البريطاني يعتمد على القوانين المتوارثة والتقاليد والأعراف الدستورية غير المدوّنة.

من جانبٍ موازٍ يرى بعضهم أنّ السبب الأهمّ هو أنّ تدوين الدستور يعني تحديد حدود "الدولة"، ما يخالف سياستها وعقيدتها التوسّعية كما عبّر عن ذلك "بنيامين نتنياهو" رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي: (إنّ حقّ اليهود ليس حدود فلسطين فقط، بل يتجاوز أكثر من ذلك ليصل إلى أراضٍ أخرى موجودة في الدول العربية، فلقد أخذت هذه الأراضي عنوةً من اليهود!)!.

التحدّيات والمخاطر

قد يؤدّي عدم وجود دستور مكتوب في أيّة دولة إلى مجموعة من الأخطار والآثار التي تنعكس على الاستقرار القانوني والسياسي والاجتماعي للدولة، وستزيد حالة اللاشرعية أو الشرعية الناقصة إضافةً إلى عدم الاستقرار الأمني والرفض الداخلي وعدم اعتراف المحيط الخارجي كما في الحالة الإسرائيلية، ستزيد من تفاقم مشكلات عدم الاستقرار في ظلّ وجود قوانين غير موحّدة، وعدم وضوح التشريعات الخاصّة بالحرّيات والحقوق، وتعارض القوانين مع مصالح الأقلّيات، وضعف الرقابة على أداء السلطات بأشكالها، وعدم تحديد هوية الدولة والعلاقة بينها وبين الدين، وانتهاك حقوق الأقليات الدينية والعرقية.

يرى كثير من الحقوقيين والباحثين المختصّين في الشأن الإسرائيلي أنّ وضع دستور حقيقي في إسرائيل أمر ما زال مستحيلاً ولن يكون مُتاحاً سوى بزوال الأسباب التي أدّت إلى عدم إيجاده وليس أوّلها الاختلاف الواسع بين أطياف المجتمع الإسرائيلي حول ذلك، ولا آخرها السياسات الأمنية القمعية، ويبدو أنّ سبباً عميقاً مستمرّاً ما زال يؤرّق كياناً أقام دولته بعيداً تماماً عن القانون والحقوق والشرعية.