على وقع الانتصارات السريعة التي حققتها الفصائل السورية المعارِضة، وتصدّر «هيئة تحرير الشام»، وقائدها أبي محمد الجولاني، المشهد؛ كثر التساؤل، ربما في خارج البلاد أكثر من داخلها، عن مدى جدية تخلي هذا التنظيم عن السلفية الجهادية التي اعتنقها منذ نشأته باسم «جبهة النصرة».
يعرف كثير من المراقبين أن تحولات قيادة «الهيئة» قديمة وتراكمية. ونعني هنا الجولاني نفسه وما يسمى «إدارة الشؤون السياسية» التي تعبّر عن توجهاته ويرأسها زيد العطار، أحد رجاله الموثوقين.
وقد تولت هذه الإدارة إرسال بيانات التطمين لجهات متعددة في الداخل والخارج أثناء المعارك الأخيرة لتؤمّن لها غطاء سياسياً وتحول دون اجتماع الأعداء والمتخوفين في حلف لمحاربة «الإرهاب» ولإعاقة تقدمها.
أبرز ما تقدّمه قيادة «الهيئة» للخارج هو أن سجلها، حتى خلال تبعية «النصرة» لداعش ثم للقاعدة، يخلو من عمليات عابرة للحدود، وهو ما يعدّه الغرب إرهاباً. فضلاً عن تعهدها، في طبعتها الجديدة منذ سنوات، بضبط الجهاديين في الشمال السوري؛ سواء بضمهم إلى قواتها وتحريكهم وفق إيقاعها، أو بشل قدراتهم على الإعداد لعمليات في الخارج.
أبرز ما تقدّمه قيادة «الهيئة» للخارج هو أن سجلها، حتى خلال تبعية «النصرة» لداعش ثم للقاعدة، يخلو من عمليات عابرة للحدود، وهو ما يعدّه الغرب إرهاباً.
في الدرجة الثانية من هرم «الهيئة» عدد من الشرعيين والعسكريين والمدنيين الذين يشكلون مجلس شورى التنظيم وأشهر وجوهه.
ويسير هؤلاء في ركب القيادة بحجج مختلفة من «السياسة الشرعية» التي تقتضي الحكمة بعدم استعداء العالم والمحافظة، في الوقت نفسه، على توجه إسلامي داخلي متشدد لكنه لا يصل إلى السلفية الجهادية.
أما من لم يقبلوا بهذه التحولات فقد وجدوا أنفسهم خارج الجماعة وتنادوا لإنشاء مجموعاتهم الصغرى التي كان أبرزها «حراس الدين»، الفرع السوري الرسمي للقاعدة، لكن المعاق عن أي فعل. وسوى ذلك في «الهيئة» أمشاج من مجموعات مهاجرين، ولا سيما التركستان والأوزبك، لكنهم ليسوا فاعلين في القرار السياسي. وأيضاً بقايا من الجهاديين العرب، المصريين والأردنيين والتونسيين وسواهم. وقد اندرج هؤلاء، بدرجات مختلفة من الرضى، في مشروع قيادة الجماعة الجديد وتعايشوا مع تحولاتها، خاصة مع التشديد الدولي على رصد حركتهم وانسداد آفاق الانتقال إلى «ساحات» جهادية أخرى أو العودة الآمنة إلى بلدانهم الأصلية. وهناك أغلبية من السوريين ممن انتسبوا إلى «الهيئة» في مراحل مختلفة من تاريخها الآيديولوجي، وشبان تطوعوا فيها كفصيل متميز. يراوح هؤلاء بين مستويات عديدة من التسليم لمسار القيادة وسياساتها، ويتلقون تبريراتها عبر جهازها الشرعي المنظم من الأعلى لتحت. ليست «الهيئة» جسماً صلباً على قلب رجل واحد إذاً. لكنها لا تحوي كتلاً متماسكة وشخصيات ذات شعبية فئوية منافسة. خاصة بعد الصعود الصاروخي للإيمان بنجاح قيادة أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في تقوية الجماعة وصولاً إلى المعارك الظافرة الحالية، فضلاً عما يرى الكثيرون أنه براعة للجناح السياسي في «اللعب» بالأوراق مؤخراً.
ليست «الهيئة» خطراً على الغرب، لا لأنها تغيرت جماعياً بل لأن زعيمها الأوحد والمزمن قد تغير. قد ينفع هذا التحول في ملفات الإرهاب والتعامل مع الأقليات، التي أُتخمت بالتطمينات خلال الأيام الأخيرة.
لم تقتصر تحولات قيادة «الهيئة»، بعد سنوات من بدئها، على التصريحات والبيانات. بل تُرجمت إلى تغييرات هيكلية ومناصبية تهندس هذه المسيرة لتنتقل من كونها تغيراً في أفكار الجولاني إلى أن تصبح تحولات شاملة في الجماعة. تلك مهمة عسيرة لم تنته بعد وقد لا تنتهي أبداً. لكن إمساك قائد «الهيئة» بخيوط اللعبة داخل تنظيمه يبدو قوياً ومستمراً وغير قابل للانقلاب عليه في المدى المنظور. ويبقى أن هذه مخاوف غربية أساساً، لا تكفي تهدئتها لطمأنة السوريين. فخلال سعي الجولاني الحثيث للحصول على الاعتراف من الخارج، وصولاً إلى الشطب من التصنيف بالإرهاب كما يأمل دون معطى جدي يدعم ذلك، ظن أن تعامله مع الداخل أمر ليس تحت المجهر. فأنشأ جهازاً أمنياً متزايد القسوة والرقابة على المجتمع، وإن لم يصل إلى وحشية مخابرات الأسد. وسيطر على واجهة صورية مدنية هي «حكومة الإنقاذ» التي يختار رئيسها ووزراءها بعد دراسة أمنية وشخصية، كما في حكم الأسد. ومثله أيضاً أسس ما يشبه «جبهة وطنية تقدمية» ضم إليها فلول الفصائل التي هزمها باقتتالات داخلية خاضها كثيراً لتوسيع سيطرته. وأمسك بموارد المنطقة عبر الإشراف المباشر أو من خلال محسوبيات. فضلاً عن تفاصيل أخرى. ليست «الهيئة» خطراً على الغرب، لا لأنها تغيرت جماعياً بل لأن زعيمها الأوحد والمزمن قد تغير. قد ينفع هذا التحول في ملفات الإرهاب والتعامل مع الأقليات، التي أُتخمت بالتطمينات خلال الأيام الأخيرة، لكنه ليس أمل السوريين بالخلاص من الاستبداد والفساد وحكم الأمنيين وتعيين ذوي القربى والدُمى.
يستفيد الجولاني اليوم من أن معظم خصومه والمشككين فيه يسددون رصاصاتهم إلى ملابسه القديمة المعلقة على العصيّ دون غسيل حتى. وهو جاهز لأن يقدّم ما يكفي من تعهدات أو ضمانات تؤكد أنه غادر ماضيه السلفي الجهادي إلى الأبد لكنه ليس مستعداً للتنازل عن وضعه الحالي مثل أي سلطوي يسعى لترسيخ سيطرته، وجّه إعلامه نحو تسليط الضوء على تعامله مع مسيحيي حلب، متجاهلاً القضايا المتعلقة بسكان إدلب الذين خضعوا لحكمه سابقاً. وفي خطوة مثيرة للجدل، فتحت قواته أبواب سجني حلب وحماة، وأطلقت سراح جميع المحتجزين دون تمييز واضح بين السجناء السياسيين والجنائيين، في حين بقيت السجون في إدلب مغلقة على معتقلي الرأي ومنظمي المظاهرات السلمية التي طالبت بتغيير سياسي.