عملتُ، قبل عدة سنوات، على مشروع استقصائي عن طاقم سجن صيدنايا في أثناء الثورة. كانت المعلومات الأساسية عن كل منهم تتضمن اسمه الكامل، بطبيعة الحال، ومكان الولادة وتاريخها، واسمي الأب والأم، وتاريخ الخدمة في السجن، ونوعها إن كانت عاملة (متطوع) أو إلزامية أو احتياطية، والرتبة العسكرية، والمهمة داخل السجن إن أمكن تحديدها بدقة، وأي ملاحظات أخرى. وأخيراً بعض الصور الشخصية.
كان هذا النموذج حقوقياً، يهدف إلى التحضير لمحاكمة المتورطين في انتهاكات القتل والإعدام والتعذيب والممارسات الأخرى، والذين يُعتقد أنهم معظم الطاقم وفق شهادات الناجين. وهو ما دفع منظمة حقوقية سورية إلى تبني هذا الاستقصاء ومشاركته مع مؤسسات دولية معنية برصد مرتكبي الانتهاكات في سوريا.
لكن هذا لم يكن كل شيء. فسجل المعلومات المذكورة أعلاه أقرب إلى أن يكون إطاراً توثيقياً بارداً، وضرورياً، غير أنه لا يجيب عن سؤال أساسي كان يشغل المعتقلين والناجين وذوي الضحايا ومناصريهم من جمهور الثورة وغيرهم من المتابعين وهو: مَن هؤلاء؟ كيف تكوّنوا؟ كيف يرتكبون كل هذه الفظائع بدم بارد؟ وهل هو بارد حقاً؟
في الثقافة السورية صورٌ عن الجلاد أو السجان، ندر أن تستند إلى استنطاقه هو نفسه، فرداً كان أو مجموعة، بل بُنيت بالاعتماد على أفكار الضحية لا على ملاحظاتها في الغالب. وتكون الضحية، عادة، شاباً يسارياً مفعماً بالأمل في تغيير العالم وبالإيمان بخيرية النفس البشرية وبطيبة الفقراء والبسطاء، يميل إلى عدّ الفاعلين المباشرين الذين يتعاملون معه، أي السجانين، تروساً قليلة الحيلة في آلة قمع كبيرة يديرها أشرار حقيقيون.
أما تجربتي فكانت مختلفة عن هذه النتيجة المشوبة بالشعرية لسببين رئيسيين:
- أولهما، ما تواتر من شهادات الخارجين من سجن صيدنايا عن مبادرة السجانين، الصغار هؤلاء، إلى قتل المعتقلين بغرض التسلية أو العقوبة المزاجية، أو التنكيل بهم بشكل يتجاوز أحياناً تعليمات الضباط. لا لأن الأخيرين أكثر رحمة بل لأنهم مشغولون بالعبء العام الذي وقع على أكتافهم مع اكتظاظ السجن، في سنوات ذروة الثورة، بأعداد تفوق طاقته بكثير.
- أما السبب الثاني، فهو طبيعة الصدفة التي قادتني إلى عالم السجانين. فعندما كنت أتصفح، بحساب فيس بوك مزور موال لنظام الأسد، عثرت على صفحة شاب كتب، في التعريف بنفسه، أنه صف ضابط متطوع في سجن صيدنايا. وكانت تلك صدمة حقيقية. إذ يحظر «الجيش العربي السوري» على أفراده إنشاء حساب على مواقع التواصل الاجتماعي. وإن كان مصير هذه التعليمات الإهمال عادة فإن هذا يظل غريباً في حالة الخدمة في هذا السجن الرهيب، وإعلان ذلك باستهتار في حساب يحوي صورة صاحبه!
استغرق الأمر وقتاً قصيراً للتأكد من أن راتب إبراهيم يعني ما كتب. فقد كان يتيح منشوراته للعموم، ويتوسع في عدد أصدقائه بخفة لا مبالية فأصبحت منهم، ويستمتع بتسجيل إجازاته بسهم سفر؛ من صيدنايا إلى مصياف، والعودة مع أحد زملاء «العمل» أحياناً.
عبر التاغات، والصور الثنائية والجماعية، والتعليقات الدالة على مشتركات «مهنية»؛ أمكن تحديد الشبكة الأولى من طاقم السجن. وبالطريقة نفسها توسعت الحلقة لتشمل أقل من مائتين من العاملين في السجن، التابعين لإدارة الشرطة العسكرية.
نتيجة لاحتفاظ نظام الأسد بالمجندين الإلزاميين لأعوام طويلة خلال الثورة، وثبات غالب المتطوعين من صف الضباط؛ شكّل هؤلاء مجتمعاً من أفراد عاشوا سوياً سبع أو ثماني سنوات، وخاضوا تجربة مشتركة لا تشبه غيرها ولا يستطيع معظمهم الحديث عنها خارجاً.
في البداية، يجب أن نقول إنهم لا يتلقون أي تأهيل خاص «لنزع إنسانيتهم» قبل الفرز إلى سجن صيدنايا، بل يتجهون إلى هناك كما يذهب زملاؤهم إلى مواقع أخرى، بعد انتهاء دورة التدريب العامة. وأنه لا جهود لتحويلهم إلى «وحوش» تتجاوز إتاحة الفرصة لهم لأن يكونوا كذلك في بيئة مؤهلة.
ليس كلهم علويين، كما قد يُتوقع، وإن كانت نسبة العلويين منهم أعلى من معدلها العام بين السكان، وأعلى مما كانت عليه قبل الثورة. أما مديرو السجن، منذ تأسيسه حتى سقوطه، فيتحدرون من الطائفة العلوية حصراً. وكذلك ضباطه، وأطباؤه الذين يحملون رتبة ضابط، باستثناءات نادرة.
لا يتلقى صغار المجندين الإلزاميين، حين يصلون إلى السجن لأول مرة، تعبئة سياسية تتجاوز كلمات معدودة من مديره، وما يسمعونه من الزملاء الأقدم في أثناء انخراطهم السريع في أداء المهام؛ من أن المعتقلين «خائنون للوطن وأعداء للسيد الرئيس» مما يطلق استباحتهم التي يرونها بأعينهم ثم يشاركون فيها بسرعة ومن دون غضاضة، إلا في حالات قليلة ترجع إلى انتماء العنصر إلى منطقة ثائرة أو أقلية محايدة. وحتى في هذه الحالة فإن خروجه عن السياق العام مضبوط.
ما يهم العسكري، الإلزامي أولاً والمتطوع ثانياً، ليس المساجين كما كنا نتوهم. بل إن همومه هي ما يشغل بال عناصر جيش النظام عادة: نوعية الخدمة، ومدى صعوبتها أو سهولتها، وحجم التعب، ومعدل الإجازات ومدتها، وشدة الضباط، وتواتر المناوبات. بشكل عام، ووفق المعايير العامة في الجيش، تعدّ الخدمة في سجن صيدنايا «صعبة». لذلك يحاول بعض المفرزين إليه الانتقال منه باستخدام واسطة أو بدفع رشوة. نادراً ما ينجح ذلك نتيجة لتمسك مديري السجن بعناصرهم لأداء المهام الكثيرة. وإن حدث، فنادراً ما يكون دافعه عدم القدرة على النوم ليلاً على المخدّة تحت تأنيب الضمير.
تضاف إلى صعوبات الخدمة في سجن صيدنايا عقبة يختص بها، وهي أنه محاط بأجهزة تشوّش الاتصال وتصفح الإنترنت عبر الموبايل. وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة إلى شباب معظمهم في حوالي العشرين، يريدون كأقرانهم خارج هذه المهمة الوحشية اليومية، التسلي بمشاركة الأغاني الرائجة والنكات والتعرف إلى الفتيات أو مراسلة الخطيبة وربما الزوجة.
بشكل غير مفهوم، لا يشعر معظم الفاعلين في هذا المسلخ البشري أنهم يرتكبون جرائم؛ وقت يجلبون الطعام الشحيح جداً ويبولون فيه، وعندما يختارون من أرادوا للقتل أو التعذيب بحجج واهية، وحين يسحبون الجثث بتثاقل وهم يسمونها «فطيسة»، ويوم يقودون المحكومين إلى الإعدام، أو المطلوبين للزيارة فيذلونهم ويسرقون مما يجلبه ذووهم.
في الليل، بعد أن ينهي أكلة حيوات البشر وكراماتهم «عملهم»، يغلقون أبواب الأجنحة على الجثث الحية. يتحررون من البدلة العسكرية ويستلقون متواجهين ليلعنوا الخدمة ويتبادلوا الحديث عن الحياة المدنية. يعدّون عشاءً ويشرب بعضهم العرق المهرّب خلسة. ومن دون أي شعور بالتناقض، يقرأ علي ساتر، طبيب السجن المتطوع الذي يعدّ نفسه مثقفاً، في ديوان لمحمود درويش، في حين يعكف الملازم حسين سلوم، مهندس الكمبيوتر الذي كان يقضي خدمته الإلزامية، على عوده ليعزف أغاني فيروز التي يدمنها، أو يلعب طاولة الزهر.