طوى عام 2020 صفحاته المريرة في إدلب، تاركاً في أذهان السوريين ذكريات لا تنسى، تتربع في قائمتها الأحداث المأساوية التي شهدتها المحافظة وما حولها، من اجتياح قوات النظام بدعم من روسيا وإيران لمساحات واسعة، وتهجير مئات الآلاف من منازلهم قسرياً هرباً من الصواريخ الفراغية والبراميل المتفجرة.
مع انتهاء العام، بقيت الكثير من الأسئلة تجول في خواطر قاطني إدلب وأريافها، سواء من أهلها الأصليين، أو ممن هُجروا إليها خلال السنوات الماضية من بقية المناطق السورية، تمحور أغلبها عن مصير المناطق التي تقدمت إليها قوات النظام، والمآل الذي سيُفضي إليه من ترك منزله مرغماً، لسان حالهم يقول "هل من عودة قريبة؟".
يمكن القول إن جميع النازحين وضعوا آمالهم على تركيا لاسترداد مدنهم وبلداتهم والعودة إلى منازلهم، مستذكرين تهديد ووعيد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وإمهاله قوات النظام شهراً واحداً للانسحاب إلى ما وراء حدود سوتشي سلماً، وإلا فإن القوة هي الخيار لإرغامه على ذلك.
اقرأ أيضاً: انسحاب النقطة التركية.. آراء المهجرين بين الخذلان والأمل المعقود
لكن الربع الأخير من العام الماضي شكّل خيبة أمل كبيرة للنازحين، بعد أن بدأ الجيش التركي بإخلاء قواعده العسكرية الواقعة في المناطق التي سيطر عليها النظام، سواء في إدلب أو حلب وحماة، ليجدوا أنفسهم مضطرين للتأقلم مع واقع النزوح إلى أمدٍ غير معلوم.
التطورات الميدانية الأخيرة طرحت وما زالت تطرح كثيراً من الأسئلة، أهمها: هل تخلت تركيا على مطالبها بانسحاب النظام واستسلمت للأمر الواقع الذي فرضه الدب الروسي؟. هل غيّرت تركيا سلّم أولوياتها في إدلب؟. هل تجاوزت أنقرة عمّا مضى، وبدأت تعزز وجودها فيما بقي من مساحات خضراء لم تطأها القدم الروسية بهدف الحفاظ عليها؟
أسئلة ربما لا يملك الإجابة عنها سوى صانع القرار في أنقرة وموسكو، لكن ما هو معلوم، وجود ملفات متشابكة ومعقدة بين اللاعبين الدوليين الرئيسيين في إدلب (تركيا وروسيا)، وما يهم النازح السوري في إدلب منها أمران فقط لا ثالث لهما، وهما مصير أرضه، وموعد العودة إلى منزله.
هل انسحاب النظام وعودة النازحين في سلّم الأولويات التركية؟
انخفضت حدة التصريحات التركية، الصادرة عن الرئيس التركي أو وزارة الدفاع التركية، إزاء ملف إدلب، وعودة النظام إلى حدود سوتشي، بشكل ملحوظ خلال الأشهر الماضية، وتحديداً بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين أنقرة وموسكو في شهر آذار/مارس الماضي، ويعود ذلك لعدة أسباب من أهمها انشغال الجيش التركي في تعزيز قواعده في إدلب وما حولها، وبدء فصائل المعارضة لا سيما المدعومة من تركيا بمعسكرات تدريبية مكثفة، في إطار تعويض الخسائر الكبيرة التي خلفتها مواجهات دامت قرابة العام، كما لا يمكن إغفال دور فيروس كورونا في إشغال العالم بكامله، وتبديل مخططات الدول سواء العسكرية أو الاقتصادية وغيرها.
واستغلت تركيا فترة الهدوء هذه، بتعزيز قواعدها العسكرية، وتزويدها بدبابات وعربات مدرعة ومضادات دفاع جوي وأفراد من القوات الخاصة، ليتم مع مرور الزمن تشكيل ترسانة للجيش التركي، وجدار قوامه عشرات القواعد في محيط المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة.
وذكر الخبير العسكري العقيد "عبد الجبار عكيدي" أن تركيا لم تعد تطالب بانسحاب قوات النظام من المناطق التي تقدم إليها، منذ أن وقعت اتفاق وقف إطلاق النار مع روسيا.
وفيما يتعلق بسحب القواعد العسكرية التركية من مناطق سيطرة النظام نحو إدلب، وما أحدثه ذلك من تساؤلات لدى النازحين عن مصير مدنهم وبلداتهم، أفاد "عكيدي" خلال حديثه لموقع تلفزيون سوريا بأن القواعد كانت بالأصل محاصرة من جانب روسيا والنظام، بالتالي فإنها نقطة ضعف بالنسبة للجيش التركي إذا ما اندلعت عمليات عسكرية جديدة.
وأوضح أن الفائدة من تلك القواعد لم تعد موجودة، فهي بالأصل نقاط لمراقبة وقف إطلاق النار في منطقة خفض التصعيد الرابعة، ولكن نقل معداتها نحو مناطق وجود المعارضة في إدلب وتحديداً جبل الزاوية، ساهم في تدعيم القواعد هناك، ما جعل موقف الجانب التركي أقوى من ذي قبل.
ويرى العقيد أن الجميع أيقن بأن عودة النازحين لم تعد متاحة على المدى القريب، كذلك عودة قوات النظام إلى حدود سوتشي، مضيفاً أن ذلك مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالملفات السياسية المتشابكة بين الأطراف الدولية الفاعلة في سوريا.
كذلك يعتقد الباحث السوري "نوار شعبان" أن انسحاب النظام من المدن والبلدات التي دخلها خلال حملته العسكرية الأخيرة تحت الضغط التركي أمر مستبعد، وقال لموقع تلفزيون سوريا "لنكن واقعيين، إن رسم خارطة السيطرة الجديدة في إدلب تم بعد انتهاء المعارك في سراقب وما حولها، سواء من الجانب التركي أو الروسي".
واستبعد "شعبان" فكرة إقدام تركيا على عملية عسكرية للتوسع خارج نطاق سيطرتها في إدلب أو استرجاع أية نقاط، وفي الوقت ذاته لن تتراجع، ما يعني تثبيت النفوذ على ما هو عليه حالياً.
وأضاف "النازحون الجدد أصبحوا أمرا واقعا، والنقطة المهمة التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، أن خسارة أي أراضٍ إضافية لصالح روسيا والنظام، سيكون له آثار كارثية".
الأولويات التركية
تسعى تركيا منذ 9 أشهر لتعزيز قواعدها العسكرية في إدلب وأرياف حلب واللاذقية، وتولي أهمية خاصة لجبل الزاوية، ومحيط الطريق الدولي حلب - اللاذقية (M4)، والتلال الحاكمة في ريف اللاذقية الشمالي، كما أن جزءا من اهتماماتها ينصّب على إعادة تأهيل فصائل المعارضة.
ومنذ مطلع العام الجاري أدخل الجيش التركي قرابة 5 أرتال عسكرية إلى إدلب، وأكدت مصادر محلية لموقع تلفزيون سوريا أن الأرتال تضم مدافع ودبابات ومجنزرات وآليات حفر وناقلات جند، وقالت إنها اتجهت إلى القواعد التركية بمنطقة جبل الزاوية.
اقرأ أيضاً: جبل الزاوية.. جدار دفاعي تركي يرسم ملامح التحرك المستقبلي
ويبدو أن الهدف التركي لا يقتصر على تعزيز القواعد السابقة، بل إنشاء قواعد أخرى، حيث تجولت 5 مدرعات تركية قبل أيام في تل قسطون بسهل الغاب في ريف حماة الغربي، واستطلعت التل الاستراتيجي والمدرسة الموجودة فيه، في مؤشر على نية الجيش التركي إنشاء نقطة عسكرية هناك.
وتتخذ القوات التركية خطوات جدية لحماية الطريق الدولي M4 في إدلب، بعد الهجمات التي تعرضت لها الدوريات المشتركة التركية الروسية على الطريق خلال العام الماضي.
وأكد مراسل تلفزيون سوريا في 4 كانون الثاني الجاري أن القوات التركية بدأت بتوزيع محارس مضادة للرصاص في المنطقة الممتدة بين أريحا ومحمبل بإدلب، موضحاً أن الهدف من تلك المحارس -التي ستوجد فيها قوات من الجبهة الوطنية للتحرير- هو حماية الطريق الدولي M4 من أي اعتداء ومنع حدوث تفجيرات عليه.
وقال العقيد "عبد الجبار عكيدي" إن تركيا مصممة على البقاء في إدلب، ومنع أي هجمات عسكرية جديدة للنظام، وذكر أن تعزيز القواعد العسكرية المنتشرة في المنطقة بمختلف صنوف الأسلحة يدل على أن الجيش التركي مستعد للمواجهة.
ومن النقاط التي تسعى لها تركيا، تفتيت هيئة تحرير الشام ببطء، ومحاولة دمجها مع الجبهة الوطنية للتحرير، وتدريب مقاتلي الجيش الوطني على التكتيكات العسكرية، الدفاعية والهجومية، الليلية والنهارية، وفقاً لـ "عكيدي".
وفي الختام أكد العقيد أن القواعد العسكرية التركية في إدلب مستعدة لكل الاحتمالات، الدفاعية والهجومية، لكنه رأى أن تركيا ليس لديها استعداد للبدء بأي عمل عسكري هجومي، ولكن في حال بدأ الهجوم من جانب النظام، ستكون مهام القواعد دفاعية، وربما تنتقل من حالة الدفاع إلى الهجوم.