تقع القاعدة الأميركية المعروفة باسم البرج 22 في الأردن وسط بادية مترامية الأطراف، بالقرب من الطريق السريع القديم الذي يصل دمشق ببغداد على مسافة قريبة من الحدود الأردنية - السورية، والطقس في الشتاء هناك يصبح بارداً وماطراً ومظلماً في معظم الأحيان. وخلال الشهر الماضي، قتل ثلاثة جنود أميركيين في قاعدة البرج 22 بهجوم لمسيرة أطلقتها ميليشيا مدعومة إيرانياً، وقد أدى مقتلهم إلى دفع الولايات المتحدة لشن أكثر من 80 غارة انتقامية ضد الحرس الثوري الإيراني والميليشيات العاملة في العراق وسوريا.
كان الهجوم على الأردن نتيجة واضحة ومتوقعة للرد الأميركي الفاتر على أكثر من 150 هجمة تعرضت لها القوات الأميركية في سوريا والعراق منذ تشرين الأول الماضي، تتلخص حقيقة الأمر البسيطة في أن الولايات المتحدة أرجأت ولمدة طويلة فكرة التعامل مع التهديد المتزايد الذي تتعرض له القوات الأميركية في المنطقة، نظراً لأن الجنود الأميركيين كانوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم بشكل جيد، أي بمعنى أصح، مكنت مقدرات الجنود الأميركيين واشنطن من الاستخفاف بحجم المخاطر التي يتعرضون لها، ويقصد بذلك تجنب اللجوء إلى خيارات صعبة.
مرحلة جديدة
بيد أن الهجوم على قاعدة البرج 22 أنهى حالة اللعب وأطلق العنان لتساؤلات جديدة عن أمن الآلاف من القوات العسكرية الأميركية الموجودة في الأردن وسوريا والعراق في وقت أخذ فيه النزاع في الشرق الأوسط يتوسع. وخلال الشهر الماضي، بدأت الولايات المتحدة محادثاتها مع العراق التي يمكن أن تفضي إلى انسحاب القوات الأميركية من هناك، كما أن بعض المسؤولين في إدارة بايدن قد يفكرون بسحب القوات من سوريا أيضاً بحسب ما ورد في أحد التقارير.
بيد أن هذا النوع من المحادثات قد يدمر المصالح الأميركية في المنطقة بصورة خطيرة، لكونها تعطي الأمل لإيران بنجاحها في هدفها البعيد المتمثل بطرد الولايات المتحدة من المنطقة على يد الميليشيات الموالية لها، وهذا الأمل هو أشد ما تحتاجه إيران لتحقيق ذلك، لذا لا شيء يمكن أن يتحول إلى مصدر خطر أكثر من هذا الأمل على الجنود الأميركيين في المنطقة بما أنهم أصلاً في موضع خطر.
إذاً، هل يجب على القوات الأميركية أن تبقى في سوريا والعراق؟ أم عليها أن ترحل؟ وفي حال بقائها، كيف ستمنع القيادة الأميركية تلك الغارات من الاستمرار؟ ما يحتاجه الوضع الآن هو قرار رئاسي أُجّل طويلاً، ويتضمن التزاماً راسخاً بإبقاء القوات الأميركية في سوريا إلى جانب التزام آخر يختلف قليلاً عن الأول ويتمثل بالتعاون مع الحكومة العراقية على إيجاد مستوى مقبول للطرفين من عدد القوات الأميركية في ذلك البلد.
الوجود الأميركي في سوريا
لنلق نظرة أولاً على سوريا، فقد أصبح من الشائع في واشنطن القول بأن وجود 900 جندي أميركي في سوريا قد تجاوز حدود السياسة الخارجية الأميركية، بيد أن الواقع أشد تعقيداً من ذلك، فقد دخلت الولايات المتحدة إلى سوريا في عام 2014 برفقة التحالف الدولي لهزيمة تنظيم الدولة، وقد تم ذلك بمساعدة شركاء أميركا في سوريا، أي قوات قسد. وبحلول منتصف عام 2019، حققت الولايات المتحدة هدفها المتمثل بالقضاء على دولة الخلافة ككيان جغرافي، بيد أن فلول تنظيم الدولة ماتزال موجودة.
واصلت القوات الأميركية منذ ذلك الحين التعاون مع قسد في شمال شرقي سوريا وذلك عبر تدريب قوات الدفاع المحلية، كما ساعدت الولايات المتحدة قسد على إدارة شؤون أكثر من عشرة آلاف مقاتل من تنظيم الدولة أعلنوا استسلامهم فاقتيد كل هؤلاء إلى السجن، إلى جانب إدارة شؤون نحو 50 ألف نازح موجودين هناك.
أي إن الانسحاب سيحمل معه مخاطر كبيرة، إذ في ظل غياب الدعم الأميركي، قد تعاني قسد في تأمين السجون التي تؤوي عناصر تنظيم الدولة وفي إدارة المخيمات التي يعيش فيها نازحون سوريون حياة بائسة. لذا، في حال تحرير عدد لا بأس به من مقاتلي تنظيم الدولة، وتسنى المجال للتنظيم حتى يقوم بتجديد نفسه، فإنه سيمثل مخاطر جديدة على العراق وغيره من دول المنطقة، كما سيصعب على قوات الأسد كبح جماح تنظيم الدولة في سوريا حتى في ظل وجود الدعم الروسي والإيراني.
لطالما كان الهدف البعيد لأميركا من محاربة تنظيم الدولة في هذا الجزء من العالم هو الوصول إلى مرحلة تستطيع معها قوات الأمن المحلية تولي تلك المسؤولية الجسيمة التي تتمثل بمنع وقوع تلك الهجمات، وقد حققت الولايات المتحدة بعض التقدم في سوريا، ولكن مايزال هناك كثير من الأمور التي تحتاج لمن ينفذها هناك، أي إن وقت الرحيل لم يحن بعد.
الوجود الأميركي في العراق
وفي دولة العراق الجارة، نشرت الولايات المتحدة نحو 2500 جندي ليدربوا قوات الأمن العراقية على مواجهة تنظيم الدولة، وقد مضى الأميركيون قدماً في تحقيق هذا الهدف مقارنة بما حققوه في سوريا، ولكن ماتزال هناك حاجة لبقاء القوات الأميركية في العراق، وبما أنه من المنطقي أن نفكر بأن وجود القوات الأميركية في العراق سيتراجع عند متابعة المفاوضات مع الحكومة العراقية، وبأن الأمور ستتحول إلى مزيد من الترتيبات المعنية بالتعاون الأمني العادي بين البلدين وهذا ما يتطلب بقاء عدد أقل من القوات الأميركية في العراق، ولكن من الخطأ الانسحاب من هناك على عجل، كما حدث في عام 2011، إذ يجب على الأميركيين أن يتذكروا بأن وجود منصة لهم في العراق شرط مسبق لبقاء قواتهم في سوريا.
وكما هي الحال في سوريا، تعرضت القوات الأميركية في العراق لهجمات شنتها جماعات رديفة للجيش بأمر من إيران، ثم إن التفاوض على بقاء الوجود الأميركي في العراق يمثل حالة معقدة أخرى، وذلك لأن هذا الوضع لم يعد مريحاً بالنسبة لقادة العراق، فهم يدركون بأنهم بحاجة لمساعدة الحليف الأميركي في تدريب قوات الأمن لديهم، وفي الوقت ذاته يتعرضون لضغط شديد من الجماعات الشيعية الممولة إيرانياً لإخراج كل وجود عسكري أجنبي من البلد. كما أن الولايات المتحدة زادت من الضغط على الحكومة العراقية بعد ضربها لأهداف تابعة لجماعات تابعة لإيران وأخرى تابعة للحرس الثوري في العراق، تماماً كما حدث خلال هذا الشهر.
الانسحاب دليل على ضعف أميركا
يمكن القول في نهاية المطاف بأن القوات الأميركية في سوريا والعراق موجودة لتمنع تنظيم الدولة من شن هجوم على الولايات المتحدة في الداخل، ولهذا فإن رحيل القوات الأميركية عن هذين البلدين يعني إعطاء المهلة والمجال لتنظيم الدولة حتى يقيم دولة الخلافة من جديد، وهذا ما يهدد الولايات المتحدة في عقر دارها. هذا وقد تواجه الولايات المتحدة احتمال إرغامها على إعادة جنودها إلى وطنهم حتى لو كلفها هذا كثيراً، غير أن تبعات سلبية قد تترتب على المنطقة عموماً من جراء ذلك، وذلك لأن الانسحاب الأميركي السريع من المنطقة سيعتبر دليلاً آخر على ضعف أميركا الذي سيجعل خصومها لن يترددوا في استغلاله.
ثم إن الرحيل ليس بخيار يمكن اتخاذه ببساطة واستخفاف، كما أن البقاء ليس بخيار جيد أيضاً إن لم تتمكن الولايات المتحدة من وقف الهجمات التي تستهدف قواتها. ولم يتضح بعد إن كان بوسع الولايات المتحدة اتخاذ ذلك القرار بالبقاء الذي سيترتب عليه سيل من الضحايا الأميركيين وهذا ما سيجعل من خيار البقاء صعباً. ولهذا، في حال قررت الولايات المتحدة أن تبقى فعليها أن تردع تلك الهجمات التي تشنها جماعات مدعومة إيرانياً ضد القوات الأميركية وأن تشتتها وتقضي عليها.
وهذا يعني أن الولايات المتحدة وصلت إلى نقطة تحول في هذا الملف، فقد فارق أميركيون الحياة هناك، لذا لا ينبغي أن يقوم الرد الأميركي على العواطف أو الرغبة بالانتقام، بل على عزم وتصميم واضح لتحقيق الأفضل والأنسب لمصلحة الولايات المتحدة، ولهذا من الأفضل للقوات الأميركية أن تبقى مرابطة هناك حتى تدافع عن بلدها من الخارج بدلاً من أن تدافع عنه في الداخل.
المصدر: The New York Times