فتحت الاضطرابات والصراعات الدولية والإقليمية والإخفاقات المحلية، ثغرات ومسارات لينسلّ منها تنظيم الدولة ويخرج من قوقعته وسباته في سوريا، فيكثّف ضرباته كماً ونوعاً، ويوسع هامش حركته ونطاقه العملياتي الجغرافي بشراسة يغذيها تفتيت الاستقرار الهش في سوريا، وهذا النهوض اللافت والمرعب للتنظيم عرضاً ثانوياً للفراغ الذي خلفته الأزمات، بل هو نتاج عدم جدية الأطراف المعنية بالقضاء على التنظيم.
أعلنت القيادة المركزية في الجيش الأميركي مقتل 7 عناصر من تنظيم الدولة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري، في حين تتجاوز أعداد قتلى قوات النظام السوري و"قوات سوريا الديمقراطية" في الأشهر الأربع الأولى الـ 300 عنصر في أقل تقدير، وتنشر صفحات الأخيرين نعوات فردية وأخرى جماعية. تنظيم الدولة خرج من سباته الشتوي في سوريا وأخذ يتجول في باحة البلاد الخلفية بأريحية غير مسبوقة، منسلاً من ثغرات فتحتها له أزمات دولية وأخرى إقليمية إضافة إلى أسباب ميدانية محلية.
نشط تنظيم الدولة بشكل لافت نهاية العام الفائت وحتى اليوم، وأخذ المنحى شكلاً تصاعدياً في عدد ونوعية العمليات، حيث رصد موقع تلفزيون سوريا مقتل أكثر من 300 عنصر من قوات النظام و"قوات سوريا الديمقراطية – قسد" منذ مطلع العام 2024، وكان شهر شباط الفائت الأكبر بعدد الهجمات ضد "قسد" حيث شن التنظيم 26 هجوماً في محافظات دير الزور والرقة والحسكة، قتل وأصيب فيها ما لا يقل عن 40 عنصراً من "قسد"، كما لوحظ في الشهرين الماضيين اتساع رقعة نشاط التنظيم في البوادي السورية لتشمل المثلث معدان – تدمر – محطة الـ T2 ويقع داخل هذا المثلث بوادي السخنة والكوم والرصافة وغيرها.
بالعودة إلى بيان القيادة المركزية الأميركية الصادر في السادس من الشهر الجاري، حددت القيادة للمرة الأولى في بياناتها العملياتية عدد عناصر التنظيم في العراق وسوريا بنحو 2500 عنصر.
وجاء في البيان: "إن الملاحقة المستمرة لنحو 2500 من مقاتلي تنظيم داعش في جميع أنحاء العراق وسوريا هي عنصر حاسم في الهزيمة الدائمة للتنظيم. على نفس القدر من الأهمية هي الجهود الدولية المستمرة لإعادة أكثر من 9000 معتقل داعشي في مرافق الاحتجاز في سوريا، وعودة وإعادة تأهيل ودمج أكثر من 45000 فرد وعائلة من مخيمي الهول وروج.
العدد التقديري الصادم الذي كشفت عنه القيادة لا يبدو أنه يتناقص كثيراً، لأنه وبحسب المصدر ذاته فقد قُتل 7 عناصر فقط في سوريا خلال 3 أشهر.
كيف يتحرك داعش في سوريا؟
خسر تنظيم الدولة الإسلامية في 23 آذار 2019، منطقة الباغوز آخر حيز جغرافي تكدس فيه آلاف المقاتلين وعائلاتهم تحت ضربات طيران التحالف الدولي ومدفعية "قسد"، وسبق سقوط الباغوز على الحدود العراقية السورية خسارة التنظيم لجميع الأراضي التي كان يُسيطر عليها في سوريا والعراق. لكن ما إن بدأت احتفالات "قسد" وحلفائها حتى بدأت خلايا التنظيم تضرب معظم أنحاء سوريا على اختلاف مناطق السيطرة.
بعدها هدأت خلايا داعش في الصحراء السورية في محاولة لتعويض الكوادر المهمة التي راحت بين قتيل ومعتقل في سوريا والعراق وإعادة خطوط الاتصال مع القيادة الجديدة، ولاستيعاب الوضع الميداني الجديد في سوريا حيث أطلقت روسيا والنظام حملات تمشيط في التلال والجبال والجيوب والمغر المنتشرة في الصحراء السورية.
وبعد تحقيق ما سبق، بدأ التنظيم يضرب أينما تيسر له، وبث صوراً وتسجيلات لكمائن وهجمات من عدة محاور بدبابات ورشاشات متوسطة وثقيلة ومدافع هاون وقاذفات صواريخ، وتعلن خلاياه البيعة لسلسلة القيادات المقتولين تباعاً.
قالت مصادر أمنية وعسكرية سورية وعراقية لموقع تلفزيون سوريا: تبين في الرصد العسكري والتحقيقات مع القيادات والعناصر المعتقلين من داعش أن التنظيم أعد خطة مسبقة بعد أن أخذت مناطق سيطرته بالانحسار لصالح القوات العراقية و"قسد"، ونظّم شبكة من الخلايا في المكان الوحيد المناسب للاختباء، فخُزّن السلاح والذخائر والمركبات والأموال في مقار ومستودعات في الصحراء السورية بعضها حُفر صناعياً والآخر كان عبارة عن مغارات أو ثنايا جبال وتلال.
وفي ذروة سيطرة التنظيم عامي 2014 و2015 اعتمد داعش على ما كانوا يسمّون بـ "الرصّاد" وهم من البدو الرحل وصيادي الطيور البرية والمهربين الذين يعرفون طرق الصحراء شبراً شبراً، ولا يلفتون الانتباه.
كان "الرُصّاد" يسيّرون قوافل التنظيم اللوجستية والعسكرية بين مختلف المناطق، فالصحراء السورية تصل جميع المحافظات باستثناء اللاذقية وطرطوس، كما استخدم التنظيم رصّاده في نقل الرسائل ورصد الطرق وحركات قوات النظام وقوات قاعدة التنف، والقوات الروسية تحديداً في تدمر.
ثغرات خلقتها أزمات دولية وإقليمية
الغزو الروسي لأوكرانيا
يمكن تفسير تنامي نشاط تنظيم الدولة في سوريا بأن أزمات دولية وأخرى إقليمية فتحت ثغرات لينسلّ منها ويزيد هامش حرية حركته، فالتصاعد الذي يتحدث عنه هذا التقرير هو جزء طافر من تصاعد أقدم بدأ بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وما تبعه من توجيه تركيز موسكو العسكري ومواردها بعيداً عن سوريا والتشققات في المنظومة العسكرية والأمنية البوتينية، وتحديداً عندما انتهى الخلاف بين بوتين وطباخه يفغيني بريغوجين بانسحاب مرتزقة ميليشيا "فاغنر" من سوريا منتصف 2023 والتي كان يقدر عددها بين ألف وألفي عنصر أساسي وشبكة متعاقدين يصل عددهم إلى نحو 10 آلاف عسكري يعملون في حراسة البنية التحتية للنفط والغاز والفوسفات.
قادت فاغنر معارك النظام السوري وروسيا في البادية السورية وألحقت بداعش خسائر فادحة، واعتمدت الميليشيا مزيجاً عملياتياً وتكتيكياً في قتال تنظيم الدولة، فمقاتلوها يتمتعون بتدريب عال ومدعم بترسانة جوية وبرية كافية.
ومن الجدير ذكره أن الخلاف بين بوتين وطباخه المقتول في سوريا بدأ عندما أبادت طائرات أميركية رتلاً للميليشيا الروسية في منطقة خشام بريف دير الزور عام 2018 فيما بات يعرف بـ "مجزرة فبراير الأحمر"، وكتب يفغيني بريغوجين تفاصيل ما حدث في ذروة الصراع مع بوتين واتهم الجيش الروسي حينها بأنه تركهم وحدهم تحت وابل القصف الأميركي بعد أن وعدهم بحمايتهم جواً.
بعد مقتل لواء بالجيش الروسي بانفجار عبوة ناسفة استهدفت رتله في دير الزور، أطلقت روسيا في تشرين الثاني 2020 عملية "الصحراء البيضاء" في سوريا بمشاركة فاغنر وقوات النظام وميليشياته وعلى رأسها "لواء القدس"، لتمشيط البوادي السورية على 3 مراحل، كانت الأولى والثانية في بادية السخنة بريف حمص الشرقي، والثالثة في بادية الشامية في ريف دير الزور الشرقي غرب نهر الفرات.
رغم إلحاق خسائر بشرية ومادية في صفوف خلايا داعش، لم يكن للصحراء الروسية البيضاء في سوريا جدوى استراتيجية، ولم تكن جدية بقدر ما كانت رمزية للرد على مقتل الجنرال الروسي، فمصادر موقع تلفزيون سوريا قدرت أعداد المشاركين في الحملة بأقل من ألف مقاتل.
وكشفت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية نقلاً عن مسؤولين غربيين وآخر إسرائيلي في تشرين الأول 2022 أن روسيا سحبت قوات وأنظمة دفاع جوية رئيسية من سوريا لتعزيز حربها في أوكرانيا، وبلغ عدد القوات المسحوبة ما بين 1200 و1600 جندي، وقال المسؤول الإسرائيلي إن القيادة العسكرية الروسية في الكرملين أصبحت أقل مشاركة في إدارة العمليات اليومية في سوريا.
المناوشات الإيرانية الأميركية
بعد حملات موسكو غير المجدية وانسحاب فاغنر من سوريا، عاد التنظيم يملأ الفراغات الصحراوية التي انسحب منها لتجنّب مواجهة القوات والميليشيات الروسية وقوات النظام، لتفتح أمامه ثغرة جديدة بعد أن شنت فصائل المقاومة في غزة معركة "طوفان الأقصى" وانتقلت تبعات الحرب إلى سوريا على شكل مناوشات بين الميليشيات الإيرانية التي حملت اسم "المقاومة الإسلامية في العراق" والقواعد الأميركية المنتشرة على طول نهر الفرات وفي قاعدة التنف جنوب شرقي سوريا وقاعدة البرج 22 المقابلة للتنف في الأراضي الأردنية.
انشغلت القوات الأميركية في المناوشات التي استمرت أشهراً وبشكل شبه يومي، واستغل داعش هذا الانشغال في مزيد من حرية الحركة.
القوات الأميركية من جيش واستخبارات هي أكثر من كبّد التنظيم الخسائر ومرد ذلك إلى التقنيات العسكرية الحديثة والرصد المتواصل بالطائرات والتجسس والمعلومات القادمة من الشركاء المحليين في العراق وسوريا.
عوامل محلية
عدم جدية "قسد"
لم تبد "قسد" جدية كافية في محاربة خلايا التنظيم على مستوى عسكري، واقتصر التحرك على المستوى الأمني في ريف دير الزور الشرقي ومحافظتي الحسكة والرقة، وبذلك لم ينته تهديد الخلايا التي تعبر ضفة الفرات، فترزع العبوات وتكمن للأرتال وتخطف طلباً للفدية وتجمع الإتاوات من التجار والأهالي في دير الزور.
مطلع أيلول 2023 انفجر التوتر بين قيادة "قسد" وقيادة مجلس دير الزور العسكري التابع لها وتطور النزاع إلى اشتباكات دامية مع مجموعات عشائرية بقيادة "إبراهيم الهفل" لتنتهي بعد شهر بحسم "قسد" المعركة. أرياف دير الزور الشرقية والشمالية التي شهدت هذه المعركة هي في الوضع الطبيعي مرتع خلايا التنظيم المتسللين إليها ليلاً للقتل والاغتيال والجباية.
حسمت "قسد" معاركتها ضد "الهفل" لكن رواسب التوتر والبغضاء القديمة أخذت تتراكم أكثر. تعاملت قسد مع هذه المنطقة من السكان السوريين العرب بعنصرية وتهميش حتى في المستوى الخدمي، ويضم سجل قائد مجلس دير الزور العسكري" أبو خولة" عشرات الانتهاكات وتهميشاً للفعاليات والقيادات العشائرية، وبذلك أصبحت خاصرة مناطق سيطرة "قسد" مع البادية السورية أكثر هشاشة.
كان تهميش "قسد" الممنهج المدفوع بالعنصرية لهذه المنطقة عاملاً حاسماً في استمرار تنظيم داعش، وتسهم قضايا مثل الفساد وعدم كفاية الخدمات والافتقار إلى إنفاذ القانون في زيادة المظالم المحلية وخيبة الأمل، التي يستغلها داعش لتجنيد وتوسيع نفوذه.
سياسة داعش الواقعية مع "قسد"
تستحضر "قسد" مع كل تصعيد تركي ضدها هجوم داعش على سجن الصناعة بحي غويران جنوبي مدينة الحسكة في 20 كانون الثاني من العام 2022، عندما ضربت عربتان مفخختان أسوار السجن، الذي يحوي مئات من عناصر التنظيم، تبعته اشتباكات بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وتمكن عشرات السجناء من الفرار وفرض البقية سيطرتهم الكاملة على السجن داخلياً، كما انتشروا في عدة أحياء بمدينة الحسكة مع مجموعة من عناصر التنظيم كانت تنتظرهم في الخارج.
شنت "قوات سوريا الديمقراطية" عملية عسكرية واسعة في محيط السجن والأحياء الجنوبية بمدينة الحسكة بدعم من "التحالف الدولي" حتى تمكنت من استعادة السيطرة على السجن بشكل كامل بعد نحو 10 أيام.
يتعاطى تنظيم الدولة مع "قسد" بسياسة واقعية بعد هجوم الصناعة الشهير، فلا مكان يستوعب مقاتليه المسجونين، ولا يفكر التنظيم بالعودة إلى النمط القديم في السيطرة الواضحة، كما أن أي هجوم كبير مثل هجوم الصناعة سيعزز بقاء القوات الأميركية لأمد أطول خاصة بعد أن بات ملف وجود الـ 900 جندي أميركي محط شك وجدل مع اقتراب الانتخابات الأميركية والمطالب العراقية بالانسحاب الأميركي من البلاد التي تعد قاعدة "العزم الصلب"، وفي الوقت ذاته يحاول التنظيم سحب ذرائع "قسد" بأن استمرار الهجمات التركية يهدد محاربة الإرهاب على حد قولها المتكرر، وأنقرة هي الجهة الوحيدة التي تهاجم "قسد" منذ معركة "نبع السلام".
ضعف قوات النظام
يعتمد النظام في ملء الصحراء السورية وحملات التمشيط الهزيلة على ميليشيات رديفة لا يتجاوز عددها الـ 200 وغالبا ما يقود الحملة "لواء القدس" الذي تلقى الدعم من روسيا وإيران على حد سواء.
وتأثرت قدرات النظام العملياتية بعد انحساب فاغنر وانشغال روسيا بالغزو الأوكراني ومن ثم سحب موسكو لمئات المقاتلين والمعدات من سوريا لترميم النقص الحاصل في أوكرانيا، وزاد نقص العنصر البشري عندما أرسل النظام مئات المقاتلين المرتزقة للقتال في أوكرانيا ومن قبلها في ليبيا وإفريقيا إلى جانب القوات الروسية.
ولا يمتلك النظام السوري تقنيات حديثة في طائراته المهترئة وخاصة فيما يتعلق بأنظمة الرصد والرؤية الليلية، والصواريخ الدقيقة، ويعوض هذا الضعف التقني بالصواريخ المضادة للدروع من طراز كورنيت.
وفق هذا الواقع الميداني المحلي والتحولات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، يمكن القول إن تنظيم الدولة قادر على الوصول إلى كل المحافظات السورية وشن ضربات سواء خاطفة أو مزلزلة، واستمرار النزاعات الإقليمية والدولية يعني توسعاً أكبر في الفجوات التي قد ينسلّ منها التنظيم.
ولا يبدو أن تصريح قائد القوات الجوية في القيادة المركزية الأميركية، أليكس غرينكويتش صريحٌ وصحيحٌ عندما قال قبل 5 أشهر: "ربما لا يكون داعش شيئاً يدعو للقلق، لقد هزمناهم ووضعنا أحذيتنا على أعناقهم إذا صح التعبير، لذا فهم ليسوا في وضع يسمح لهم باتخاذ إجراء مهم ضدنا".