مع تطور المجتمع من القبلية والقرى الأولى إلى الدولة والمملكة ثم الإمبراطورية، فكر العقل الإنساني بأن هذا المجتمع البشري المتطوّر يحتاج إلى قانون يديره وينظم شؤونه. وكان لمنطقة ميزوبوتاميا (ما بين النهرين) ومصر النصيب الأكبر لنشأة القانون والتشريع فيهما وانطلاقهُ للعالم.
قانون "أورنامو" 2100 ق.م
تقول الميثولوجيا السومرية كما ورد في كتاب (أنكي المفقود): "كان المُلك في المنطقة الأولى في حالة فوضى، وانتقل المُلك من مدن الآلهة إلى مدن الناس، حيث كان ينتقل بين لجَش، أوريم، كيش، آسن، (مدن سومرية) ثم بعد استشارة إنليل لآنو أودع المُلك في يد ناننار، وأعطي المُلك للمرة الثالثة لأوريم التي بتربتها ظل الجسم الصالح الساطع المقدس مزروعاً، ثم نصب ناننار ملكاً صالحاً على الناس في أوريم وكان اسمه (أورنامو)".
يعدّ أورنامو مؤسس سلالة أور الثالثة في بلاد الرافدين كما أنه مؤسس أول شريعة قانونية في التاريخ التي سبقت شريعة الملك البابلي حمورابي بنحو ثلاثة قرون. إذ تمكن الملك أورنامو من تأسيس حكم السلالة الثالثة في مدينة (أور) وتوحيدها مسيطراً على المدن المجاورة في تلك الفترة، عندئذ كان بحاجة لقانون يسيّر عمل هذه الدولة التي يسيطر عليها، ومن سلطة الآلهة أخذ السلطة التي شرع بها أول قانون في التاريخ لتنظيم حياة المدن السومرية في الوقت الذي كانت فيه الفوضى وقانون الغاب مسيطراً على أجزاء كبيرة من العالم.
تم التعرف إلى بعض أجزاء هذا القانون منقوشة على لوح بالخط المسماري تم اكتشافه في مدينة نفر، ولوح آخر في مدينة أور، وهو يحتوي على مقدمة و31 مادة تشريعية، ومن أمثلة المواد التي تم التعرف إليها:
المواد من 4 إلى 12 التي كانت تعالج مسائل الأحوال الشخصية كالطلاق والخيانة الزوجية والخطوبة. أما بقية المواد فكانت تتعلق بموضوعات الاعتداء على الأراضي الزراعية وبعض الأمور المتعلقة بالزراعة والاعتداء الشخصي وأحوال الرقيق. ومنها:
- يحق للزوج قتل زوجته الزانية وإطلاق سراح الرجل الذي ارتكب معها الزنا.
- إذا اشتكى عبد على سيده بسوء معاملته وثبت على سيده إساءة عبوديته مرتين، فسوف يحرر العبد.
- إذا كسر رجل سن رجل آخر، عليه أن يدفع شيقلين من الفضة لكل سن. (والشيقل هي وحدة الوزن في الفترة السومرية)
وبهذه القوانين استطاع الملك أور نامو إقامة العدل بالبلاد والقضاء على الفساد الاقتصادي الذي كان يتمثل في تعرض الحقول والتجارة البحرية ورعاة المواشي والثيران والأغنام للسرقة. واستطاع أن يحقق العدل والحرية في بلاد سومر وآكاد كلها.
قانون "لِبِت عشتار" 1870 ق.م
- إذا دخل رجل إلى بستان رجل آخر وضُبط هناك لسرقته، فعليه أن يدفع عشرة شيقل من الفضة.
- إذا كان الأب على قيد الحياة، تسكن ابنته، سواء كانت كبيرة أو صغيرة في منزله مثل الوريثة.
لم يقتصر حكم المجتمع بحزمة القوانين الموضوعة من الحاكم على الملك أور نمو فقط، وإنما شهدت مناطق ميزوبوتاميا عدداً من الملوك الذين استطاعوا أن يحكموا وينشروا العدل في المجتمع بالقوانين والتشريعات التي وضعوها، ومن بين ملوك حضارات ما بين النهرين يعتبر الملك "لبت عشتار" 1870 قبل الميلاد، وهو خامس ملك لسلالة إيسين الأمورية التي حكمت في العراق، من بين الملوك الذين ازدهرت فترة حكمهم بالنواحي التشريعية والأعمال السياسية والعمرانية والدينية والزراعية، وعلى الصعيد التشريعي احتوى قانونهُ على مقدمة نموذجية و37 مادة تشريعية وخاتمة تضمنت عهداً من الملك "لبت عشتار" بالقضاء على البغضاء والعنف ونشر الرفاه. كما تضمنت أيضاً استنزال لعنات الآلهة على من يغير نصوص هذا القانون أو يمحوها أو يكتب اسمه عليها.
وقد استطاع الملك "لبت عشتار" أن يتعامل من خلال المواد التشريعية مع مسائل مثل حقوق الأشخاص والزيجات والخلافات، والعقوبات، والممتلكات، والعقود.
"شريعة حمورابي" 1750 ق.م
"عندما أرسلني مردوخ (إله بابل) لحكم الشعب وتقديم المساعدة للبلاد، قمت بتأسيس القانون والعدالة في لغة الأرض وعززت رفاهية الناس". من مقدمة قانون حمورابي
مما لا شك فيه أن النصب الأكثر كمالًا ووضوحاً للقوانين عبر التاريخ كان نصب/ مسلّة حمورابي (نحو 1758 قبل الميلاد) الذي ضمّ قسمهُ الأعلى رسماً يمثل الملك حمورابي وهو يصلي أمام إله العدل، ووجدت القوانين محفورة تحتها فيما لا يقل عن 282 فقرة، باستثناء المقدمة والخاتمة.
وتضمنت العديد من العقوبات القاسية التي تتطلب أحيانًا نزع لسان المذنب، أو يديه، أو صدره، أو عينه، أو أذنه، ولكن رغم العقوبات القاسية فقد اعتبرت المدونة واحدة من أقدم الأمثلة على اعتبار المتهم بريئًا حتى تثبت إدانته.
وعلى غير العقوبات القاسية والصارمة مثل العين بالعين، تعامل قانون حمورابي أيضاً على التوالي مع قانون الأشخاص وقانون الأسرة وقوائم الأسعار. ومن الأمثلة عن ذلك:
- إذا ضرب الابن أباه قطعوا يده.
- إذا شهد الرجل على الحبوب أو النقود شهادة زور يتحمل هو نفسه العقوبة المقررة في الدعوى.
- إذا بنى البّناء منزلاً للرجل ولم يجعل بناءه سليمًا، وتشقق الجدار، وجب على ذلك البناء أن يقوي ذلك الجدار على نفقته الخاصة.
والجدير بالذكر أنهُ على الرغم من أن قوانين ما بين الرافدين المكتوبة التي تم اكتشافها لاحقًا، بما في ذلك "أورنامو " إشنونة " لبت عشتار "، تسبق حمورابي بمئات السنين، فإن سمعة حمورابي لا تزال كمشرع رائد عمل على منع القوي من قمع الضعيف وإحقاق العدالة للأرامل والأيتام , كما إنهُ فيما يتعلق بالأهمية النسبية للقوانين المتعلقة بالملكية والمسائل الاقتصادية الأخرى، فقد كان المجتمع البابلي في الأسرة الأولى من حيث فرديته ثروة من الملكية الخاصة ، وتنمية التبادل التجاري، أكثر "حداثة" بكثير من المجتمع الروماني في أوائل الجمهورية.
حيث كانت شريعة حمورابي شاملة لكل جانب من جوانب الحياة، ويمكن تعلم الكثير عن الحياة والمثل العليا في بلاد ما بين النهرين من خلال هذه القوانين.
ودليل هذا فإنهُ بعد وفاة حمورابي، أصبح نظام القوانين الخاص به شيئا كلاسيكيا في العالم القديم، وقد وجد العلماء أمثلة عليها مكتوبة على ألواح، تم نسخها في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد، أي بعد أكثر من ألف عام من وفاة حمورابي.
"قانون ماعت" 2000 قبل الميلاد في مصر
لم تقتصر أرض مصر القديمة من الحياة المنضبطة ضمن قوانين مسيرة على جميع الشرائح الاجتماعية، ولكن على عكس ما شهدناهُ في مناطق ميزوبوتاميا فقد كان بيت الآلهة أو المعبد كما يعرف هو المفوض الرسمي لوضع القوانين وإصدار الأحكام من خلالها، هذا ما شهدناهُ من خلال قانون الآلهة ماعت والتي تعتبر رمزاً للحقيقة والعدالة والتوازن والنظام عند المصريين القدماء، فقد صُممت قوانينها لتجنب الفوضى والحفاظ على الحقيقة، ولكن كما ذكر سابقاً على اختلاف القوانين الأخرى، فقد كانت محكمة ماعت تقام بعد موت الشخص، أي في العالم السفلي بحسب المعتقدات المصرية القديمة، ففي كتاب الموتى المصري صوّر لنا المشهد الجنائزي للميّت وهو في قاعة المحكمة يتلو 42 جملة يدافع فيها عن نفسه في أثناء محاكمته في العالم السفلي، وعليه أن يكون صادقاً لكى ينجو من العذاب:
"أنا لم أرتكب خطأ.
لم أتصرف بعنف.
أنا لم أسرق.
لم أقتل رجالا أو نساء.
أنا لم أظلم
أنا لم أخطف لقمة من فم طفل... إلخ".
وغيرها من الاعترافات بحيث توضح أن الشخص عاش في حياته ولم يرتكب أيا من الأعمال المؤذية لنفسه وللغير.
وهنا يمكننا أن نتخيل الحياة الاجتماعية في ظل هذه المعتقدات، فعلى الرغم من أن قانون ماعت كان فقط للحياة بعد الموت (بحسب المعتقدات)، فإن وجوده كان كفيلاً ليخلق نوعاً من الانضباط الأخلاقي والاجتماعي في حياة المصري القديم وذلك خوفاً من (قاعة الحقيقة، ووزن لكا والقلب أمام الإلهة ماعت) بحسب ما صوّر في مشهد المحكمة الجنائزية في كتاب الموتى عند المصريين القدماء.