بالمقاييس العسكرية والمهنية، تعد عملية طوفان الأقصى ضد الكيان الإسرائيلي في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الفائت، ناجحة جدا، وشكلت صدمة عسكرية واستراتيجية للكيان، لعلها الأقوى منذ نشأته عام 1948.
وقد قيل الكثير عن أبعاد هذه الضربة التي تلقتها إسرائيل، والتي جعلتها تفقد توازنها لبعض الوقت، بل جعلت الغرب كله في حالة "عدم تصديق" لما حدث، وهو يرى وكأن مشروعه في فلسطين المدجج بأحدث ما في ترسانة الغرب من أسلحة، يوشك أن ينهار في ومضة عين، وكأنه نمر من ورق، تمزقه ثلة مستضعفة من المقاتلين الحفاة المحاصرين منذ سنوات طوال.
ومع الأسف، فإن هذا الإنجاز المبهر، بدأ يرتد وبالا وكوارث على الشعب الفلسطيني عامة، وفي قطاع غزة خاصة، حيث تمكنت إسرائيل من الاستفراد التام بالقطاع المحاصر، وما تزال تمعن فيه قتلا وتدميرا منذ أزيد من 4 أشهر، على نحو غير مسبوق في التاريخ المعاصر، وسط صمت عربي ودولي مريب، حيث توافق الجميع كما يبدو على منح العصبة الموتورة الحاكمة في تل أبيب الفرصة الكاملة لتحقيق مآربها في القطاع، والتي لم تخفها منذ اليوم الأول، والمتمثلة في تهجير سكانه، بعد التنكيل بهم، باعتبارهم من وجهة نظر تلك العصبة، جميعا مسؤولين عما حدث يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وليس بينهم أبرياء، كما عبر عن ذلك رئيس الكيان، وغيره من مسؤوليه.
كشفت تقارير إسرائيلية عن وصول منتظم لبضائع ومنتجات زراعية من الأردن، ومن الإمارات عبر السعودية، ثم الأردن، إلى إسرائيل
التواطؤ العربي الرسمي مع المذبحة الإسرائيلية في غزة واضح لدرجة تفقأ العيون، ولم يعد ممكنا حجبه أو مدارته لأن الطرف الآخر، أي إسرائيل والولايات المتحدة، غير مهتم، بإخفاء هذا التواطؤ، بل هم يتفاخرون به، ويعتبرونه إنجازا هاما لسياساتهم. وبعد أن أعلنت إسرائيل في محكمة العدل الدولية أن مصر هي التي تغلق معبر رفح، كان رد فعل النظام هناك مجرد نفي غير مقنع، ثم جاء الرئيس الأميركي بايدن ليقول إنه بالكاد أقنع السيسي بالموافقة على فتح المعبر في بداية الحرب. والمعبر، إذا يفتح بالقطارة تحت ضغوط دولية، ووفق الرغبات والأهواء الإسرائيلية (برغم أنه معبر مصري - فلسطيني ويفترض أنه لا علاقة لإسرائيل به) يغلق أيضا في وجه الراغبين بالخروج من القطاع، (كأفراد لظروفهم الخاصة، وليس بشكل جماعي) بمن فيهم الجرحى، إلا لمن يدفع رشاوى بآلاف الدولارات.
وليس الحال أفضل على الجانب الآخر من الحدود، حيث كشفت تقارير إسرائيلية عن وصول منتظم لبضائع ومنتجات زراعية من الأردن، ومن الإمارات عبر السعودية، ثم الأردن، إلى إسرائيل، بغية الالتفاف على طريق البحر الأحمر الذي تعثرت الملاحة فيه بفعل هجمات الحوثيين.
أما النظام في دمشق، ورغم أن الأراضي السورية تتعرض بشكل شبه يومي لعمليات قصف من جانب إسرائيل، فهو لا يجرؤ على الرد، وعمد إلى منع المظاهرات المؤيدة لفلسطين أيضا، وهو يراهن كما يبدو على أن إسرائيل والولايات المتحدة سيقدران ذلك بعد الحرب، ويسمحان بتخفيف العقوبات المفروضة عليه، وإعادة دمجه في المجتمع الدولي.
إن الوضع العربي، بما فيه الفلسطيني لجهة العلاقة المتوترة بين سلطتي قطاع غزة والضفة الغربية، فضلا عن الوضع الدولي، لم يساعد أبدا على تثمير ضربة 7 أكتوبر سياسيا
وتترافق هذه السلبية العربية، وربما التواطؤ في بعض الحالات، مع تواطؤ أوضح وأكثر فجورا من جانب الغرب عامة، والولايات المتحدة خاصة، برغم ما يصدر للإعلام أحيانا من "تذمر" و"استياء" أميركي من سياسات حكومة نتنياهو غير المبالية بحياة المدنيين في غزة، بينما على أرض الواقع تواصل إدارة بايدن ضخ السلاح والذخيرة والأموال لحكومة الاحتلال، وتعمل على حمايتها من أية إدانة دولية. ولا يقل الموقف الأوروبي سوءاً عن موقف واشنطن، ولاحظنا كيف تقاطرت معظم الدول الأوروبية خلف واشنطن لاتخاذ إجراءات ضد منظمة "الأونروا" التابعة للأمم المتحدة لمجرد صدور اتهامات إسرائيلية غير مثبتة لضلوع بعض موظفي الوكالة في هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
والخلاصة، إن الوضع العربي، بما فيه الفلسطيني لجهة العلاقة المتوترة بين سلطتي قطاع غزة والضفة الغربية، فضلا عن الوضع الدولي، لم يساعد أبدا على تثمير ضربة 7 أكتوبر سياسيا، ونجحت إسرائيل في تحويلها من نكسة أمنية استراتيجية، إلى فرصة لتحطيم المجتمع الفلسطيني في غزة وفي الضفة أيضا، ولو بدرجة أقل، مستغلة الأجواء الإقليمية والدولية المواتية، مع أعلى قدر من العجرفة والغطرسة التي لا تكترث، ولو بالحد الأدنى، لأرواح المدنيين الفلسطينيين والذين قتلت وأصابت منهم أكثر من مئة ألف حتى الآن. وبناء على المعطيات المذكورة آنفا، من غير الواضح ما إذا كانت التطورات اللاحقة، أي بعد توقف الحرب، ستحمل أية عوائد إيجابية على الفلسطينيين وقضيتهم، ما دام الطرف الفلسطيني (الحلقة الأضعف) يترك وحيدا في وجه إسرائيل وحلفائها، بينما المواقف العربية لا ترجو في أحسن الحالات، سوى تجنب الآثار السلبية لما يحدث على أمنها، دون وجود أية خطة أو مقاربة عربية جدية لاستثمار ما حدث باتجاه الضغط على إسرائيل وداعميها، باستخدام بعض ما لديها من أوراق، وهي كثيرة، أقلها التهديد بقطع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي، بينما يعتبر المتغطرس نتنياهو أن الانتصار على حماس، سيجعل علاقات حكومته مع العديد من الدول العربية، أقوى مما كانت.