"أدعو عليه، في كل يوم أفتح عيني وأجدني في هذا الكيس البلاستيكي أقول الله لا يرحمك يا أبي" تقول عبير، سيدة في الأربعين من عمرها تقيم في مخيم عرسال للاجئين السوريين بلبنان.
جاء ذلك في حديث شخصي دار معها على هامش دراسة واقع توريث المرأة. العبارة حفزتني لأسمع أكثر من النساء وأجمع شهادات لـ30 سيدة سورية موزعات بين مخيمات الشمال ومخيمات عرسال، سيدات عانين من النزوح القسري، وأسألهن عن ميراثهن المستحق.
أرغب بالتنويه أن الأرقام التي ترد هنا لا تعتبر بيانات عاكسة للواقع، بل هي أرقام تعبر عن المقابلات فقط، وتهدف إلى تسليط الضوء على تأثير الواقع العسكري والأمني السوري اليوم على أضعف الشرائح السورية وأكثرها تحملاً للمظلومية، شريحة المُهجرات قسراً.
1. المخيمات: لماذا لم تحصلي على ميراثك؟
وزعت إجابات السيدات بين 26 بالمئة: أبي وأخوتي حرموني منه (أبي كتب الميراث لإخوتي أو أخوتي حرموني منه). و13 بالمئة: تنازلتُ طواعية عن الميراث لإخوتي.
61 بالمئة: لم أحصل على ميراثي بسبب المشاكل الأمنية والنزوح، وذلك وفقاً للتفاصيل التالية:
-
- المشاكل الأمنية والنزوح
من أصل 30 مقابلة كان هناك 18 سيدة (بنسبة 61 بالمئة) لم تحصل على حصتها الإرثية بسبب المشاكل الامنية، واشتركت قصصهن بالتالي:
-
-
- لأني أمٌ و/ أو زوجةٌ لثائر؛ ميراثي عالق في مناطق النظام
-
"أبي لم يكن فقيراً، ترك أراضي في المُحرر ومنزلاً كبيراً في اللاذقية قبل النزوح، بعنا الأراضي في المحرر وحصلت على 200$ ، أما المنزل وصلنا أنه سُكِن من قبل شبيح، أخذ البيت، ونحن الورثة متفرقون في المخيمات، لا يمكنني وأخوتي – حتى أختي المقيمة في مناطق النظام– أن نفعل أي شيء حتى لا ينقله لاسمه بالواسطة، لا يمكن فعل شيء سوى أن نضع على الجرح ملح ونسكت". ثناء، امرأة في الثلاثين، مهجرة من اللاذقية في مخيمات الشمال
"حُرمت منه لأني أم لشابين خرجا في الغوطة ضد النظام أحدهما قائد ميداني مطلوب، أبي ترك لنا أراضي ومنزلين ومحضر بناء وإخوتي بعد وفاة أبي لم يتمكنوا من تقسيم وبيع أي شيء؛ فهم يستفيدون اليوم من العقارات التي يسكنون فيها، أما الأراضي والمحضر فلا يمكن بيعها أو نقلها، لأن ذلك يعني إجراء حصر إرث، وبحث أمني عن الورثة، إن عرفوا أني في المُحرر سيصادر النظام كل شيء ونخسر جميعاً، لذلك أترك ورثتي وأعيش في الإيجار". أم وسيم– في الأربعين من العمر ، مهجرة من الغوطة في الشمال.
مصادرة أملاك المعارضين المباشرة وغير المباشرة، تعتبر من أكبر الإشكاليات التي تواجه أصحاب العقارات في مناطق النظام، فبعد عام 2018 أصبح بيعها يحتاج لموافقة أمنية وذلك تبعاً لقرار وزارة الإدارة المحلية رقم (463/ت) الصادر في 12 آب 2015[1]، والأمر يتم كالتالي:
بعد الاتفاق وكتابة عقد البيع يتم رفع أسماء البائعين والشاري إلى الأفرع الأمنية (ضرب فيش)، وهي عملية تأخذ ما بين شهر واحد إلى 3 أشهر لإصدار موافقة بالبيع إذا لم يكن يوجد لصاحب العقار/ المشتري أو أحد أفراد عائلتهما سجل أو ملاحقة أمنية؛ وفي حال كان أحدهم مطلوباً أمنياً تضع أجهزة النظام يدها عليه.
تصدر الموافقة الأمنية عن أربعة أجهزة هي: المُخابرات الجوية، الأمن العسكري، أمن الدولة والأمن السياسي. من الأمور التي تمنع الحصول على هذه الموافقة الأمنية يُذكر التخلف عن الخدمة العسكرية، تهم الإرهاب الفضفاضة، أو ربما تقرير كيدي، وجود معارض في العائلة، وغيرها من التهم التي تعود لمزاجية الموظفين في التدقيق فيها، وذُكر لي أن ملفاً أمنياً توقف لـ4 أشهر في دمشق وتحديداً في الأمن العسكري ليتم استدعاء أحد الورثة وسؤاله عن مصدر الحوالات والأموال التي تأتيه شهرياً من ابنه في النمسا.
-
-
- ورثت ولم أرث، النظام صادر أملاكنا
-
وفي حين توجد شريحة من النساء يحاولن عدم تحريك ملفات أملاكهن العقارية، توجد فئة أخرى خسرن ما لديهن بالفعل إما عبر تفجير العقارات وهدمها أو عبر قوانين إثبات الملكية، وكانت بعض شهاداتهن:
"قبل وفاته قسم أبي -رحمه الله– الميراث، صحيح أنه ترك لي ولإخوتي البنات بيتاً (70 متراً مربعاً فقط)، كتب بأسمائنا، لكن لم يبق أي شيء! فبعد تهجيرنا أنا وإخوتي أُصدر قانون تثبيت الأملاك في القابون وغيرها، وأنا وأهلي كلنا هنا في المُخيم أو خارج البلاد، لا يوجد أحد في دمشق ليثبت ملكية العقارات، وحتى من بقي منا لن يتجرأ على المطالبة باسمي، اليوم كل عقاراتنا هُدت وفجرت، شاهدت الفيديوهات. والمنطقة يعاد تنظيمها وسيسكنها غيرنا". أم محمد، خمسينية من القابون[2]، مهجرة مع أبنائها الثلاثة في أحد مخيمات الشمال.
"أعتقل زوجي سنة 2013، وقطعت أخباره. كل الظن أنه مات، لزوجي منزلان وأرض في داريا، ومع التهجير أخذت أبنائي (كانوا أطفالاً حينها) ونزحت مع أهلي لينتهي بي الأمر معهم في خيمة، لا يمكنني العودة لبيتي خوفاً من الاعتقال ولا يمكنني بيع أي شيء فلا أوراق لدينا ولم نثبت ملكية البيت. يقولون إنه لم يعد لنا، لا نملك شيئاً هناك، ولا شيء هنا سوى الانتظار". أم عبد الرحمن- في الخمسين، مهجرة من داريا في مخيمات الشمال.
أصدر نظام الأسد في 2 نيسان 2018 القانون رقم 10[3] المعني بإعادة تنظيم المناطق التي هُجر أهلها (بحجة الإرهاب تبعاً لنص القانون) وإعادة إعمارها، الهدف الظاهر من هذا القانون وتبعاً لمادته الثانية هو إسقاط ملكية المعارضين للأسد لأراضيهم وعقاراتهم خاصة أن إثبات الملكية لم يعد يعتمد على أوراق الطابو وسنداته الموجودة لدى النظام، بل يقوم بشكل مباشر على توجه صاحب العقار أو وكيله من الدرجة الأولى أو الثانية أو أي قريب له (من الدرجة الرابعة) يحمل وثيقة تثبت قرابته من صاحب الملكية أو وكالة رسمية مصدقة من قنصليات النظام بإثبات ملكية "فلان" للعقار، وهو ما لا يتم في معظم الأحوال بسبب خوف أقرباء المعارضين والنازحين من بطش آلة النظام الأمنية في حال مثولهم أمامها.
-
-
- حرمني أبي وأهلي منها بعد نزوحي
-
"أبي الذي حرمني، منذ صغري كنت مع إخوتي نخرج معه إلى الأرض، تركنا المدرسة لنعمل معه، وبعد الثورة نزحت إلى عرسال مع زوجي وأبنائي، فكتب أبي كل أملاكه إلى إخوتي الذكور الذين يسكنون في القرية ولم ينزحوا، أنا أم لـثلاثة شبان أحدهم مقعد وبنت، لا أوراق معنا، وما يجنيه أبنائي بالكاد يكفينا للأكل. وكلما قهرتني هذه الخيمة أدعو عليه، في كل يوم أفتح عيني في هذا الكيس البلاستيكي أقول الله لا يرحمك يا أبي، كنت فقط أعطني لأُستر هنا، راضانا إخوتي الذكور بـ100$ للبنت، 100$ فقط وأخذوا أراضي بالآلاف". عبير، في الأربعين من عمرها– مخيم عرسال للاجئين السوريين.
"حصر أبي ميراثنا مع أمي في شقة كتبها باسمها، ومنح أخوتي الذكور بيوتاً على حياة عينه، بعد وفاته جاء إخوتي وحاصصونا في ما كتب أبي لأمي ولنا، نسوا وصيته وورثوا مرة ثانية. أمي امرأة مسكينة رضيت بأن تعطينا جزءاً من حقنا 100$ فقط، بعدما هُجرت مع زوجي قام أخوتي ببيع ما ترك لهم أبي وسافروا إلى أوروبا وأنا اليوم أعيش في غرفة باردة، ست أشخاص في غرفة باردة". وفاء، في الأربعين من العمر– مخيمات الشمال.
ثماني سيدات قابلتهن (بنسبة 26 بالمئة) حرمن من حقهن في الميراث بسبب ذكورية المجتمع والتمييز بين الأبناء والبنات خوفاً من خروج المال من العائلة الواحدة وإمكانيات استغلالها من قبل زوج الابنة، وعلى الرغم من النزوح والحالات الصعبة التي تعايشها النساء النازحات ما زال الآباء إلى اليوم وبشريحة كبيرة منهم يتعاطفون مع أبنائهم الذكور، ويعزون ذلك كونهم الحاملين لاسم العائلة ويعايشون ظروفاً اقتصادية غير اعتيادية في ظل الثورة والحرب.
-
لو حصلتِ على حصتك الإرثية ما الذي كان سيتغير؟
عندما طرحت هذا السؤال في المقابلات على السيدات الثلاثين قالت النساء كان كل شيء سيتغير. لو ورثت كنت:
- 27 بالمئة سأنشئ مشروعي الخاص (20 بالمئة أشتري أرضاً وأزرعها، 7 بالمئة أفتح مشروعي التجاري).
- 43 بالمئة سأشتري بيتاً وأخرج من المخيم.
- 20 بالمئة سأسافر مع أبنائي.
- 10 بالمئة أعالج ابني، بنتي، زوجي.
-
واقع توريث المرأة السورية في مناطق النظام.. ما زالت النساء لا يرثن
خريف عام 2022 أجرينا دراسة قائمة على استطلاع وصل إلى 319 سيدة و20 مقابلة[4] توجهت إلى سيدات مستحقات للميراث، سألنا عن تجربتهن في الحصول على الإرث، وما توصلنا إليه هو أن 39 بالمئة من العينة حصلن على حصصهن الإرثية بشكل كامل، بينما 61 بالمئة منهن حرمن بشكل جزئي أو كامل من حقهن في الإرث. وراقبنا تغير إمكانيات الحصول على الميراث تبعاً للمتغيرات التالية:
-
- متغير الزمن
قُسمت العينة إلى شريحتين أساسيتين لملاحظة تغير الميراث مع تغير الزمن، فكان نصف السيدات الوراثات ضمن الشريحة العمرية (20 إلى 39 سنة) والنصف الآخر للسيدات بين (40 إلى 70 سنة) وما وجدناه هو: الشريحة (بين 20- 39 عام) حرمت جزئياً أو كلياً بنسبة 53 بالمئة؛ بينما حرمت الشريحة الأكبر (بين 40- 70) منهن بنسبة 70 بالمئة بشكل جزئي أو كلي.
-
- متغير المعرفة
لأن التعلم يساعد في زيادة الوعي والمعرفة قسنا الحرمان بناءً على درجة التعليم الذي حصلته السيدات، وخلصنا إلى أن: 88 بالمئة من غير المتعلمات و/أو المتعلمات للمرحلة الابتدائية 71 بالمئة من حاملات الشهادة الإعدادية، 65 بالمئة من حاملات الشهادة الثانوية و50 بالمئة من صاحبات التعليم العالي حرمن جزئياً أو كلياً من الميراث.
-
- المتغير الاقتصادي
هناك فروق واضحة في الميراث بين شريحة العاملات وغير العاملات، وكانت نسبة المحرومات من العاملات 56 بالمئة بينما وصلت النسبة إلى 69 بالمئة من غير العاملات، وهذا يخبر –ولو بنسبة قليلة- أن تمكين النساء اقتصادياً يساعدهن في المطالبة والوصول لحقوقهن.
-
- المتغير الأهم إدراك النساء للميراث قيمة ومعنى
جهل بالميراث وعدم إدراك كم المال المستحق فيها هو ما لُمِسَ خلال المقابلات، فبعض اللواتي أكدن الحصول على الميراث بالكامل اعتبرن قطعة الذهب التي تعطى لهن بعد وفاة الوالدين (كترضية) ورثاً، بينما أظهر قسم أخر جهلاً واضحاً بما يملك الأهل من أموال واعتبرن أي حصة ممنوحة لهن إرث، في حين خجلت بعضهن من ذكر أنهن حرمن، واعتبرن حديث النساء عن الميراث طعنٌ في صورة العائلة.
ربما لو كان مفهوم الحصص الشرعية والقانونية واضح لهن لكانت نسب الحرمان التي صرح عنها أكبر، فعلى الرغم من اختلاف مستويات التعليم للسيدات وتنامي نسب الحصول على الإرث مع الوقت إلا أن شريحة كبيرة من النساء تعتبر مال الترضية والجزء ميراثاً، حرمان في أفضل حالاته يصل إلى النصف يصرخ "ما زالت النساء في سوريا لا يرثن".