كمعظم الروايات السورية التي أفرزها العقد الأخير، تدور أحداث رواية "من بابل إلى الرايخ" لـ محمد صالح عبيدو حول رحى الحرب وانعكاساتها على السوريين عموماً، إلا أنها تربط بنسيج مُحكم بين تاريخ المنطقة الموغل في القدم، وحاضرها المؤلم.
فكرة الرواية المحورية تدور حول حقيقة مطموسة المعالم كان قد دفنها "دانيال" في قديم الزمان، واختفت مع موته، لتعود إلى الظهور مجدداً في عصرنا المتزامن مع اندلاع الحرب في سوريا.
ينحدر آرام، الشاب البسيط وصاحب المواهب المبدعة، من مدينة رأس العين بمحافظة الحسكة. أجاد الكاتب تعريف مدينته للقارئ الغريب عنها، وللقارئ الذي يعرفها أيضاً، وأثار في نفسه حنين الأرض في وصفه لتاريخها وأرضها وانتمائه لتفاصيلها الحيّة الحاضرة في وجدانه.
يترك آرام جامعته وجلّ أحلامه وعائلته وحبيبته ميديا مع اتساع الحرب واشتداد سعيرها في بلاده، ويعود إلى مسقط رأسه ليصطدم بالحقيقة النائمة وهو يضرب بفأسه الأرض، إذ يثير دهشته صوت صندوق مدفون تحت التراب.
سيقلب ذلك الصندوق حياته رأساً على عقب، وتصبح تلك الحقيقة أشبه بلعنة تلاحقه مع صديقه سومر طالب الآثار الذي ترك دراسته هو الآخر بسبب الحرب، واستعان به ليساعده فيكتشفان مخطوطة أثرية تعود لآلاف السنين.
ينضم لهما عزرا، الشاب الشغوف بصيد الأسماك لكنه يخشى الماء ولا يتقن السباحة. ويقرر الثلاثة الهجرة من الحسكة إلى تركيا أملاً في بيع تلك المخطوطة والاستفادة من ثمنها الباهظ، إلا أنها ستسوقهم إلى قَدر مجهول!
وخلال رحلة بحثهم عن المشتري، سيلاحق الموت والغرق والرعب خطاهم التائهة. يواجه آرام مافيات دولية علمت بأمر المخطوطة فراحت تتبعه بهدف الاستيلاء عليها وطمس الحقيقة التاريخية التي تحملها.
وينتهي المطاف بآرام وعزرا بالهروب إلى ألمانيا (مدينة فيتنبيرغ شرقي ألمانيا).
دقة الوصف وضبط التفاصيل
يغلب الأسلوب الحواري العميق على مفاصل الرواية، ويصف الكاتب الأماكن بطريقة ساحرة، ويجتهد في إبراز أضرار الحرب وتأثيراتها على فئة الشّباب وبقية فئات المجتمع، كما يصور الفقر والموت بأسلوب سردي ممتع وحزين بالوقت نفسه.
يحمل الكاتب على عاتقه تصوير العالم والبشر بعدسة شديدة الدّقة دون أيِّ تعديل أو تجميل إنّما طرح أفكاره بجرأة وبقلب يعتصر قهراً، فكان قلمه هو آلة التّصوير الخاصة به.
ويبرع عبيدو في وصف الأماكن والأشخاص، وفي ضبط الرواية زمانيّاً ومكانيّاً. فتتتابع الأحداث وينضم إلى الأصدقاء الثّلاثة "يوسف"، الرّجل المتدين الذي طحنته رحى الحرب كبقية الشّباب، ومن هنا أضاف الكاتب بعض المعلومات الثّقافية إلى روايته عبر الخوض في محادثات أراد من خلالها توضيح بعض الأفكار بطريقة ذكية.
يستهل الكاتب روايته بما أطلق عليها "الحقيقة النّائمة" ليدرك القارئ لاحقاً أن فحوى الرّواية والكلمة المفتاحيّة لها هي هذه الحقيقة النّائمة. وبعد أن تتوالى الأحداث والفواجع، ويصبح الحلم لعنة هؤلاء الأربعة في زمن متخم بالشرور والأطماع والانتهازية؛ تنام الحقيقة من جديد في نهاية الرواية.