أمس السبت، قتل عنصران من قوات النظام في ريف إدلب، لم يكن ذلك إثر اشتباك أو استهداف، بل حدث بانهيار سقف أحد المنازل أثناء قيام العنصرين بهدمها وسرقة الحديد منها. يأتي ذلك تنفيذا للضوء الأخصر الذي أطلقه النظام، عندما اعترف رئيسه بشار الأسد عام 2016، بعمليات "التعفيش" في صفوف الميليشيات الموالية بقوله "إن ظاهرة التعفيش تعتمد على ضمير الأشخاص الموجودين في النسق الأول للمعارك، وأنه لا يوجد رقيب ولاتوجد شرطة ولا مؤسسات رقابية (...) هناك حالات ضبطت وحالات أخرى لم تضبط"، وكأنه يريد إخلاء مسؤولية "الدولة" أمام القانون الدولي عن عمليات النهب والسرقة.
المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، قال في تقرير له إن :جريمة سرقة المنشآت، والآليات الزراعية والمنازل وحتى المؤسسات الحكومية والبنى التحتية لاستخراج النحاس، أرجعت بلدات بأكملها إلى حالة ما قبل الإكساء، ما يفاقم من خسائر الحرب الاقتصادية، حيث حول مدنا أولية أعباء على مستقبل البلاد، و يرفع من تكلفة إعادة الإعمار المستقبلية التي بحسب تقديرات تكلف 400 مليار دولار ".
قانون للسطو
يقول رئيس تجمع المحامين السوريين الأحرار غزوان قرنفل لموقع تلفزيون سوريا: إن المادة الثامنة فقرة2 من "نظام روما" للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998 والذي دخل حيز التنفيذ عام 2001، اعتبرت أن "تدمير الممتلكات والاستيلاء عليها دون أن تكون هناك ضرورات عسكرية جريمة حرب، ولاسيما عندما ترتكب في إطار خطة أو سياسة عامة أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق، وينطبق هذا الأمر سواء تعلق الأمر بنزاع مسلح دولي أو نزاع مسلح غير ذو طابع دولي[4]، ومنذ عام 2012 وصفت اللجنة الدولية للصليب الأحمر النزاع الدائر في سوريا بنزاع مسلح غير ذو طابع دولي".
ويشير إلى بحث أعده "التجمع"، إذ يوضح أنه لم تختلف نصوص دستور عام 1973، الذي جاء به انقلاب عام 1970الذي ثبَّتَ حكم آل الأسد، عن النصوص التي وردت في الدساتير السابقة كثيرا، إلا ان هذا الدستور قد فصل أكثر في أنواع الملكيات، حيث صنف الملكية إلى ملكية الشعب والملكية الجماعية والملكية الفردية، وأعتبر أن الملكية الفردية، تشمل الممتلكات الخاصة بالأفراد وتكمن وظيفتها الاجتماعية في "خدمة الاقتصاد القومي وفي إطار خطة التنمية" و"لا يجوز أن تتعارض في طرق استخدامها مع مصالح الشعب" بحسب المادة 14.
ويلفت البحث أن هذا الدستور جاء بمصطلحات فضفاضة غامضة حمالة أوجه، كالاقتصاد القومي ومصالح الشعب، كي تستند عليها السلطة الحاكمة فيما بعد من خلال أجهزتها الأمنية ومحاكمها الاستثنائية والقوانين غير الدستورية في مصادرة الممتلكات الخاصة للكثير من السوريين ولا سيما المعارضين لحكم حزب البعث والأسد.
فالمادة 12 من قانون "مكافحة الارهاب" رقم 19 لعام 2012 نصت بأنه "في جميع الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون تحكم المحكمة بحكم الإدانة بمصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة وعائداتها والأشياء التي استخدمت أو كانت معدة لاستخدامها في ارتكاب الجريمة وتحكم بحل المنظمة الإرهابية في حال وجودها".
ويوضح أن محكمة الإرهاب التي أنشئت عام 2012 معفاة من التقيد بالأصول المنصوص عليها في التشريعات النافذة وذلك في جميع أدوار وإجراءات الملاحقة والمحاكمة.
كما أن القانون رقم 10 لعام 2018 المعدل للمرسوم 66/ 2012 يشكل عاملا إضافيا في زيادة معاناة السوريين من ناحية حق الملكية، حيث يهدف هذا القانون حسب نصوصه وظاهره إلى إمكانية إحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الادارية، بناء على اقتراح من وزير الإدارة المحلية والبيئة، إلا أنه "في الحقيقة أثار مخاوف كثيرة لدى السوريين بأن النظام يحاول من خلال هذا القانون مصادرة وسلب ممتلكاتهم باسم القانون".
ودوليا تقول المادة 50 من اتفاقية جنيف الأولى "تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تتخذ أي إجراء تشريعي يلزم لفرض عقوبات جزائية فعالة على الأشخاص الذين يقترفون أو يأمرون باقتراف إحدى المخالفات الجسيمة لهذه الاتفاقية، المبينة في المادة التالية".
المخالفات الجسيمة التي تشير إليها المادة السابقة هي التي تتضمن أحد الأفعال التالية إذا اقترفت ضد أشخاص محميين أو ممتلكات محمية بالاتفاقية : القتل العمد، التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية، بما في ذلك التجارب الخاصة بعلم الحياة، تعمد إحداث آلام شديدة أو الإضرار الخطير بالسلامة البدنية أو بالصحة، تدمير الممتلكات أو الاستيلاء عليها على نطاق واسع لا تبرره الضرورات الحربية، وبطريقة غير مشروعة وتعسفية، وهو ما ارتكبته قوات النظام والميلشيات الموالية له ولإيران.
النهب مصدر دخل لقوات النظام وحلفائها
"الشبكة السورية لحقوق الإنسان" تطرقت عبر تقرير نهاية آذار الماضي إلى عمليات النهب الواسعة في إدلب وما حولها. ووصف التقرير تلك العمليات بأنها تُهدد عودة النازحين وتزرع الأحقاد الدينية، مسجلاً عمليات نهب لقرابة 30 منطقة منذ نيسان 2019 حتى تاريخ صدوره، ما يُشكل جريمة حرب.
وأكَّد التقرير أن عمليات النهب الواسعة التي وقعت لا يمكن أن تتم بمعزل أو دون انتباه قادة جيش النظام والقوات الروسية، مشيراً إلى أنَّ هذا النَّهب هو جزء من الدخل الشهري لقوات النظام وإيران وروسيا. وأكد التقرير أن عمليات النهب تشمل تفكيك النوافذ والأبواب وتجهيزات الصرف الصحي وأسلاك الكهرباء.
اقرأ أيضا: عناصر قوات النظام تحت أقدام الشرطة العسكرية الروسية في ببيلا
وذكر التقرير أن عمليات بيع الممتلكات تحدث بشكل علني في مناطق يسيطر عليها النظام وحليفاه الإيراني والروسي، وتظهر في هذه الأسواق كميات من المفروشات وتجهيزات كهربائية وأدوات زراعية، ومواشٍ.
وعلّق فضل عبد الغني رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان في حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا، بالقول: "إن قوانين شرعنة السطو على الممتلكات التي أصدرها النظام باطلة لأنها تخالف جوهر القانون، ومفروضة بالقوة، وتشرعن للنظام والحكومة الحالية السطو على الممتلكات، النظام لم يكتف بهذه القوانين بل فتح المجال للميليشيات المحلية وغيرها وقوات الجيش للسرقة، عمليات النهب بدأت منذ سنوات طويلة لكنها تحولت لعملية منظمة في المناطق التي نزح أهلها، لقد بدأت في أحياء حمص عام 2012، وفي بعض القرى التي شهدت مجازر، وحصلت أيضا في الغوطة الشرقية وخان شيخون وسراقب وريف حلب الشمالي الغربي، لقد سجلنا في تقارير تدمير الأسقف لسرقة الحديد، إنها عمليات بربرية، ما حدث يشكل جرائم حرب يتحمل النظام مسؤوليتها القانونية والحقوقية ويشكل عائقا أساسيا لعودة اللاجئين والنازحين ويجعل مؤتمر عودة اللاجئين الذي تحدثت عنه روسيا بروباغندا للضغط على الأحزاب اليمينية في أوروبا لتضغط بدورها على حكوماتها، بشار الأسد مسؤول عن السرقات لأنه قائد الجيش، وجاءت عمليات النهب كنوع من التعويض للميليشيات والمقاتلين كما أنه لم يفتح تحقيقات ولم يحاسب".
كفرنبل.. نموذج معمم
في 25 من شباط 2020، دخلت قوات النظام إلى كفرنبل دون سابق إنذار، ويقول "فادي الشاكر "أحد أهالي المدينة لموقع تلفزيون سوريا: "لم يعط الأهالي فرصة سوى للفرار بأرواحهم وبما خف حمله، و خاصة الفقراء الذين ليس لديهم سيارة أو القدرة على نقل كافة اغراضهم".
ويتابع قائلا:"عن نفسي كنت قد هربت من تحت نيران الطائرات إلى مناطق شمال إدلب دون أن اخرج معي أي أغراض فتركت المنزل بما فيه..".
ويؤكد "فادي" أنه شاهد صور بيته الواقع في الشارع الرئيسي خال من الأغراض بشكل كامل وحتى الأبواب والنوافذ تم تفكيكها، ويتابع "تلك الأغراض كانت ذكرى من جد والدي لأن بيتي أحد البيوت القديمة في كفرنبل".
تتكرر القصة مع "نور الدين الإسماعيل"، الذي يروي لموقع تلفزيون سوريا تفاصيل تهجيره: "خرجنا من كفرنبل تحت القصف تاركين خلفنا كل أثاث المنزل، بعد فترة شهر استأجرت سيارة نقل وسافرنا ليلاً لإحضار بعض ما يلزمنا في النزوح على أمل العودة دون أن أحمل كل الأثاث".
"اشتد القصف على المدينة فلم أعد قادرا على إحضار ما تبقى، لتدخل قوات النظام إلى المدينة في 25 من شباط الفائت..، وصلتني لاحقاً بعض الصور الخاصة عن تعفيش الأثاث والأبواب والنوافذ ما سبب لي ألماً كبيراً، حيث فقدت جميع الذكريات الجميلة التي كنت أحتفظ بها، من بينها خزانة قديمة تراثية قدمتها لي جدتي قبل 20عاماً، عدا عن أمتعة أخرى أعتبرها جزءاً مني".
ويقول مهند الشيخ أحد المهجرين من كفرنبل" بعد ما نزحنا استأجرنا في ريف حلب الغربي وريف حلب الشمالي، كانت البيوت صغيرة هناك صغيرة جدا، ما اضطرنا لأخذ الغرض الخفيف واللازم فقط، وبعد ماسيطر النظام على ضيعتنا بقيت أغراضي الثقيلة بكفرنبل والنظام استولى عليها جميعها، تأكدت من ذلك عندما رأيت الصور التي نشرت من كفرنبل وشاهدت مولدة الكهرباء، التي كانت لنا بإحدى الصور".
أسواق التعفيش
انتشرت أسواق "التعفيش" بشكل واسع في معظم مناطق سيطرة النظام، ففي محافظة السويداء انتشرت الأسواق، بعد سيطرة النظام على محافظة درعا، وسط غياب الرقابة ورغم مناشدة الهيئات الدينية والاجتماعية للجهات المعنية بضبطها.
كما أظهرت وسائل التواصل الاجتماعي صورا لأسواق "التعفيش" التي انتشرت في ضاحية الأسد بريف دمشق وغيرها من المناطق التي سيطر النظام عليها.
وفي أحد أعدادها تنتقد صحيفة الوطن الموالية أسواق المسروقات بالقول: "ففي كل مدينة من مدن حماة تنتشر محال التعفيش التي تضم كل ما سطت – وتسطو – عليه مجموعات يُفترض بها أن ترعى حرمات البيوت في القرى أو المدن أو الأحياء التي يحررها الجيش العربي السوري من الإرهابيين، لكنها بدلاً من ذلك تمتهن التعفيش، وتنقل المواد المعفشة إلى محال تربطها بأصحابها علاقات تجارية، لتجني مبالغ لا طائل لها، من وجع الناس ومصائبهم الذين اضطرهم الإرهاب للنزوح من بيوتهم بما يلبسون فقط!!".
وتضيف الصحيفة الموالية "منذ أكثر من عام شنت الجهات المختصة في مدينة سلمية (بريف حماة) حملة على ثلاثة من هذه المحال وصادرت ما وجدت فيها وأحالت أصحابها إلى القضاء، واستثنت المحال المدعومة، وهو ما أثار استياء الأهالي الذين طالبوا الجهات المركزية بأن تشمل الحملة جميع المعفشين وشركاءهم، ولا تستثني أي محل وهو ما يطالب به الأهالي اليوم في مختلف مدن المحافظة سلمية – مصياف – السقيلبية".
كما نقلت الصحيفة عن محافظ ريف دمشق، أن "ألف ريغار" تمت سرقتها في حران العواميد بعد سيطرة قوات النظام والميليشيات الموالية، و"أكد المحافظ أن هذا الأمر تكرر في عدة مناطق من المحافظة منها حرستا موضحاً أن المحافظة ستسعى لإيجاد مادة بديلة تصنع منها أغطية الريغارات حتى لا تتم سرقتها".
اقرأ أيضا: بالفيديو والصور عمليات "تعفيش" واسعة النطاق في مخيم اليرموك
هل يصبح الشمال غروزني سوريا؟
تأتي سرقة ممتلكات المدنيين الرافضين لاستمرار القمع والتمييز، مكملة للقتل والهدم والتهجير، ويقول الباحث صفوان موشلي لموقع تلفزيون سوريا: إن ذلك جاء لقطع الطريق على الآخر المختلف الكاسر للتجانس - الذي تحدث عنه بشار الأسد - من العودة الى سكنه وبيته، حتى و لو رغب طرف من النظام العالمي عبر ضغط دولي، فعودة المهجرين بعد الهدم والتعفيش تتطلب إعادة إعمار وتأهيل للبنية التحتية، وهو غير متاح ولن يكون ممكنا طالما أنيط به وأقصد نظام التمييز عملية إعادة الإعمار والتأهيل".
ويرى "موشلي" أن الاستقرار السياسي والمجتمعي على السواء أصبح مرهونا بتغيير أحد طرفي المعادلة، "إما تغيير ذو معنى في عصبة القرار السلطوي يشمل رأسه بالضرورة، أو تغيير في البنية السكانية، وقد اختار النظام الحل الثاني الأكثر وحشية".
ويلفت إلى أن المجتمع الدولي غض الطرف وسمح لقوى إقليمية بتمويل الهدم والتعفيش، (فأوباما بعيد توقيع إدارته على الاتفاق النووي مع إيران رفض أن يفاتح بأي تقرير عن سوريا أيا كانت التجاوزات ).
المجاهرة في التعدي على أملاك السورين لا يمكن فهمها كما يشدد "موشلي" إلا على أرضية الرعب الذي يعانيه من احتمال عودة المهجرين وفق ضغط دولي لحل مشكلة اللجوء التي "تهدد استقرار " أوربا والتي تعلق مساهمتها في إعادة الإعمار على خلق بيئة آمنة لعودتهم.
فالنظام يريد أموال الإعمار ولكنه لن يسمح بعودة السوريين إلا مجبرا. "وهي خطة سبق ونفذها حليفه الروسي فاليوم، تستطيع رؤية المباني الشامخة التي قام النظام الروسي بتشييدها في غروزني ولكنك ستفاجأ انها مدينة أشباح، فأكثر من 75% من سكانها مازالوا مهجرين ينتظرون العودة إلى غروزني منذ 21 عام حيث تمت إعادة الإعمار في عام 2000".
أما عن الأثر الاجتماعي لانتشار أسواق المسروقات المسماة صحفيا بأسواق التعفيش، بينما يسميها السوريون بـ"أسواق السّنة"، فيرى الباحث أنه أثر مهدد لاستمرارية الدولة السورية كوطن موحد لأبنائه.
اقرأ أيضا: التعفيش كنظام حكم، آل الأسد!
و"مع ذلك فهذا الخطر لم يكن أثرا جانبيا للمواجهة العسكرية، بين مليشيا النظام وداعميه من جهة والشعب الثائر وحماته من جهة ثانية، بل كان عملا مدروس العواقب منذ البداية ولم يكن انزلاقا اضطراريا فرضته التطورات الميدانية أبدا ، فمنذ 2012 كان الموجهون السياسيون للنخب الطائفية تتلقى دروسا تشرح أهمية التعفيش للنصر على العدو، ولأنها غنيمة من "العدو السني" الذي يشكل 70% من السكان على أقل تقدير فهذا يعني أنها أسواق تهدد الوطنية السورية وتقضي على إمكانية التعايش من جديد إلا إن تم إسقاط نظام التمييز و تقديم رعاية إقليمية ودولية ولمدة كافية تمنع الانتكاس في فخ التمييز من جديد".
ويضيف قائلا "ولن يكون إسقاط نظام التمييز كافيا لتجاوز الآثار المدمرة لهذه الأسواق، إذ لا بد بعد ذلك من إعادة وصل ما انقطع من شبكة العلاقات الاجتماعية عبر نشاطات مشتركة يقوم بها وجهاء عقلاء ووطنيون، ولن يكون ذلك كافيا بل لابد من التوصل إلى حد أدنى من التعويض الاجتماعي عبر تطبيق عدالة انتقالية تعيد الثقة إلى مفاهيم كالعدالة والإنسانية ومن ثم التسامح".