لم يكن الهتاف "الشعب السوري ما بينذل" أساس تصنيف ما حصل في الحريقة قبل عقد كامل، بأنه مظاهرة تحمل مطالب سياسية، بقدر ما هو ذاك الصوت الخافت الوحيد الذي صرخ "بالروح بالدم نفديك يا بشار" ولم يلق صدى يتردد من بين الحشود الغاضبة المناصرة لعماد نسب، ابن أحد تجار الحي الذي تلقى مع أخيه إهانة من شرطي مرور.
أول المطالب.. "الشعب السوري ما بينذل"
صباح الـ 17 من شباط عام 2011، كسر تسجيل مصور لمئات المتظاهرين وسط العاصمة دمشق، ما اعتاد أن يشاهده العرب من مظاهرات في مصر وليبيا واليمن وما سبقها من مظاهرات في تونس والتي كانت فاتحة الربيع العربي. وفي الوقت الذي كان فيه المصريون يحشدون لجمعة النصر للاحتفال بالإطاحة بحسني مبارك وإظهار القوة أمام قيادة الجيش كي لا يفرطوا بالتزاماتهم، جاءت حادثة الحريقة عندما شتم شرطي مرور يقف عند إشارة مرور الدرويشية خلف القصر العدلي، الشاب عماد نسب وأخاه وهما ولدا أحد تجار الحي المنحدر من تل منين.
الشرطي المعتدي طلب من عماد أن يكمل طريقه عند الإشارة، لكن شرطياً آخر على الزاوية المقابلة طلب منه التوقف، وعندما شاهدهما الأول متوقفين شتمهما لينفجر الموقف لحين وصول وزير الداخلية حينذاك اللواء سعيد سمور.
وكان التوتر في ذلك اليوم على أشده في العاصمة دمشق تحديداً، حيث أطلق ناشطون سوريون في الأول من شباط 2011 دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت محجوبة حينئذ في سوريا، للتظاهر ضد النظام، لكن ورغم عدم خروج أي مظاهرة في يومي الجمعة في الرابع والحادي عشر من الشهر نفسه، فإن حالة الترقب تطغى على حالة الانتشار الأمني للنظام والجميع بانتظار الشرارة.
وقبل يومين من مظاهرة الحريقة كان رأس النظام بشار الأسد في الحي نفسه، مستغلاً احتفالات عيد المولد النبوي الشريف في المسجد الأموي، ليستعرض كما جرت العادة منذ أن انتزع والده الحكم في سوريا، محبة الناس له وهو يقود سيارته بنفسه في شوارع المدينة القديمة.
وصول المساعد إلى مكان الحادثة ومن ثم الملازم والرائد ورئيس قسم شرطة الحميدية، لم يكن كافياً لتهدئة الوضع، إلا أن وصول وزير الداخلية أظهر بشكل واضح حالة النظام في تلك الفترة، واحترازه وتحسبه من وصول موجة الربيع إلى سوريا، وكذلك أظهرت حالة الخوف من أي هزة لعرشه فكانت التوجيهات بامتصاص غضب الشارع.
من حرق حي سيدي عامود إلى حرق سوريا
وبعد 10 سنوات من الهزة التي أعقبها زلزال، يمكن فهم طبيعة تفكير النظام عندما استيأس سمور ولم يعد لديه خيار إلا بالتهديد عندما قال "عيب يا شباب هاي اسمها مظاهرة"، ليعقبه أحد الحضور بالقول "كلياتنا منحب الرئيس.. مشان الله روحوا". لكن الهتاف عاد "الشعب السوري ما بينذل" وكذلك سمور عاد إلى مكتبه الذي غادره في نيسان من العام نفسه، هذه المغادرة كانت كفيلة بتوضيح المسار الأمني الذي سيتخذه النظام مع المتظاهرين الذين أطلقوا صرخاتهم مدوية "الشعب يريد إسقاط النظام".
حرقت المدفعية الفرنسية حي سيدي عامود عام 1925 ليتحول اسمه لحي الحريقة، ومنع الجيش الفرنسي الذي طوق العاصمة دخول الأطباء لإسعاف الجرحى، واعتقل النساء والشيوخ والشباب وأحرق متاجر سوق الحميدية، في مجزرة كتب عنها أحمد شوقي:
سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ، وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ
دَمُ الثُوّارِ تَعرِفُهُ فَرَنسا، وَتَعلَمُ أَنَّهُ نورٌ وَحَقُّ
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ، بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ
جَزاكُمْ ذو الجَلالِ بَني دِمَشقٍ، وَعِزُّ الشَرقِ أَوَّلُهُ دِمَشقُ"
ما حصل عام 1925 تكرر على مدار السنوات العشر الأخيرة، لكن هذه المرة على يد بشار الأسد وعلى مستوى كامل الأراضي السورية. 10 سنوات كانت بشهدائها ومهجريها ونازحيها وآلامها وفرحات التظاهر والحرية والكرامة، أطول بكثير من أن تكون عقداً واحداً فقط.