مرت خمسون سنة على رفض أيقونة الملاكمة محمد علي لقرار انضمامه للجيش الأميركي وذلك لوقوفه ضد تدخل حكومة بلاده في حرب فيتنام، وقد علق علي على ذلك بقوله: "لماذا يتعين علي وعلى غيري ممن يُعرفون بالزنوج قطع مسافة 10 آلاف ميل من هنا في أميركا حتى نرمي بالقنابل ونطلق الرصاص على شعب أعزل أسود آخر؟"
ولذلك جرد علي من ألقابه وحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات في عام 1967، كما منع من ممارسة الملاكمة لمدة ثلاث سنوات، لكنه منذ ذلك الحين صار صوت الحركة المناهضة للحرب، وشخصية لمع نجمها لتمثل الإرادة الأميركية الساعية بالالتزام بما يؤمن به الإنسان، وبعد مرور عقود على ذلك، مايزال أثر محمد علي وما قام به من فعل مستمراً.
"كان الشخص الذي وقف وقال لا، ولهذا تحولت قوته إلى مصدر إلهام بالنسبة لي"، هذا ما قاله عن محمد علي الشاب عدنان خانكان عندما حدثنا عن مشاركته في بطولة الجودو ضمن دورة باريس للألعاب الأولمبية التي ستقام أواخر هذا الشهر، بما أن محمد علي كان هو أيضاً بطلاً أولمبياً حاز ميدالية ذهبية في عام 1960.
الملاكم الأميركي محمد علي عند مغادرته للمبنى الفيدرالي بهيوستن عام 1967
سيدخل خانكان السباق تحت راية لجنة الألعاب الأولمبية ضمن فريق اللاجئين المؤلف من 37 عضواً، والذي سيشارك في 12 رياضة في دورة الألعاب الأولمبية.
أصبح هذا الشاب البالغ من العمر 30 عاماً يصف مدينة كولونيا الألمانية بأنها بلده، على الرغم من أنه ينحدر من دمشق، لكنه اضطر للهرب من موطنه في عام 2015 عقب تجنيده ضمن صفوف الاحتياط في جيش النظام السوري.
وبما أنه تأثر بما فعله الملاكم علي الذي يصفه بالرجل العظيم، لذا ثبت خانكان على موقفه الرافض للتورط في الحرب التي حصدت أرواح أكثر من 300 ألف مدني، وماتزال رحاها تدور حتى اليوم.
الاحتياط في جيش النظام السوري
يتذكر خانكان اليوم الذي طرق فيه المسؤولون عن سحب جنود الاحتياط على باب بيت أهله، فيقول: "لم تكن تلك الحرب تشبهني في شيء، وكيف لها أن تشبهني وأنا أرى سوريين يقتلون غيرهم من السوريين؟ لذلك أصبح الموضوع هراء بالنسبة لي، وقررت ألا أحارب فيها، إذ فكرت في سري عن السبب الذي يمكن أن يجبرني على المضي لقتل أبناء جلدتي، فوجدت بأن الحرب لا تعني لي أي شيء، ولهذا علي أن أفعل كل ما بوسعي حتى لا أتورط فيها".
تعتبر الحرب السورية التي اندلعت عقب الثورة عام 2011 أكبر أزمة إنسانية حدثت منذ الحرب العالمية الثانية، بما أنها شردت ملايين الناس.
إذ في البداية خرج المتظاهرون تأثراً بحركة الربيع العربي التي انتشرت في عموم المنطقة، فطالبوا الحكومة التي يترأسها بشار الأسد منذ عام 2000 بسن إصلاحات تشريعية وإطلاق سراح السجناء السياسيين.
غير أن الأسد سحق مطالب التغيير جميعها بكل وحشية، وهذا ما دفع لتشكيل الجيش السوري الحر، ومن ثم لظهور أطول نزاع في القرن الحادي والعشرين.
يحدثنا خانكان عن بلده فيقول: "عندما تعيش في بلد مثل سوريا، فإنك تحرم من حريتك في أن تقول لا، إذ كل ما تقوله الحكومة عليك أن تقابله بالسمع والطاعة، ولا خيار لك سوى ذلك".
كان لوفاة أحد أصدقاء خانكان المقربين بعد اندلاع الأعمال العسكرية بعامين أثر غير نظرته إلى الأبد بما كان يعرف بسوريا، إذ عندما بدأت الحرب، كان يلجأ إلى أسرته لتحميه من وقائع النزاع وحقيقته، إلا أن كل ذلك تغير في عام 2013، وعن تلك الفترة يتذكر فيقول: "كنت أتدرب في المجمع الوطني للرياضة وقد بدأ الصباح كغيره من الصباحات، فجلست لأتناول طعام الإفطار مع أحد أصدقائي المقربين، وهو رياضي من الفريق الوطني للتايكواندو، ثم افترقنا لنتدرب في أماكن مختلفة من المجمع، ولكن بعد ساعتين، سمعت صوت انفجار عنيف، فأدركت بأن تفجيراً قد وقع، فانتاب الذعر الجميع، ولهذا حاولوا أن يكتشفوا حقيقة ما حدث وسط كل الفوضى التي عمت المكان".
دخان كثيف تصاعد إثر قصف استهدف مدينة عربين بالغوطة الشرقية في 8 آذار 2015
بعد أن اكتشف خانكان مقتل صديقه في التفجير، أدرك بأنه لا يسعه أن يضمن استمراره على قيد الحياة، لأنه من المحتمل أن يتعرض لما حدث لصديقه في أي لحظة.
رحلة خطرة للوصول إلى بر الأمان
بما أن خانكان كان يمثل بلده على المستوى الدولي في بطولات الجودو، لذلك استطاع أن يفاوض على تأجيل فترة تجنيده لمدة ستة أشهر، ثم قرر الرحيل عقب وفاة صديقه.
شرع في رحلته في خريف عام 2015، عندما كان عمره 21 عاماً، حيث بدأ رحلته التي امتدت لشهر من الشمال بحثاً عن بر الأمان في أوروبا، فسافر سيراً على الأقدام وفي السيارة والشاحنة والحافلة والقطار.
بعد أن قطع الحدود إلى تركيا، تتبع خانكان الطريق المعروف الذي يسلكه اللاجئون عبر دول البلقان، فمر ببلغاريا، ثم صربيا، فالبوسنة، ومن ثم كرواتيا، قبل أن ينتهي الأمر باعتقاله عند الحدود الهنغارية لعدم وجود وثائق تثبت شخصيته أو سمة دخول بين يديه.
يتذكر خانكان تلك المرحلة فيقول: "تغيرت حياتي في غضون أسابيع قليلة، فقد كان لدي كل شيء، لكني خسرت كل شيء، وألفيت نفسي في بلد أجنبي، لا يمكنني أن أتواصل فيه مع أحد ومن المستحيل أن أحصل على مساعدة أحد".
بعد أن أمضى ثلاث ليال في مركز الاحتجاز، أخبروه بأنه أمام خيارين: إما الترحيل إلى سوريا، أو أن يمضي ستة أشهر محتجزاً في مخيم للاجئين ريثما تجري معالجة أموره، ولذلك بدأ خانكان رحلته مع الاحتجاز لمدة ستة أشهر في مخيم للاجئين بألمانيا، وبعد أشهر قليلة على رحيله عن سوريا، فرت أسرته هي أيضاً إلى القاهرة.
نهاية الحلم الأولمبي
لم يتمكن خانكان من الحصول على تدريب يلائمه بوصفه لاعب جودو، كما لم يكن بوسعه الجري أو الحفاظ على لياقته في المخيم، وعندما أطلق سراحه في مطلع عام 2016، لم يكن يفصله عن دورة ريو للألعاب الأولمبية سوى بضعة أشهر.
كان يجلس على الأريكة ويتابع وقائع الحفل الافتتاحي للأولمبياد في ملعب ماراكانا الدولي، وعن تلك اللحظة يحدثنا فيقول: "وصلت إلى بر الأمان، لكن كل ما كان يشغل تفكيري في تلك اللحظة هو أني ضيعت حلمي، لأنك إن بقيت تتدرب كل يوم لمدة عشرين عاماً من أجل تحقيق شيء ما، ثم تأتي تلك اللحظة التي تدرك فيها بأن هذا الشيء لن يتحقق، فإن الشعور الذي يحس به المرء عندئذ من الصعب تفسيره أو وصفه، ولهذا أجبرت نفسي على متابعة كل يوم من وقائع دورة الألعاب الأولمبية، على الرغم من أني بقيت أبكي طوال الوقت وأنا أتابع".
أعرب خانكان عن فرحه الغامر لما حققته مواطنته يسرى مارديني التي دخلت في السباق باسم فريق اللاجئين في ريو، ولهذا أقسم بأن يبذل كل ما بوسعه ليشارك مع فريق اللاجئين في أولمبياد طوكيو 2020، وعن ذلك يقول: "شعرت بتحفيز كبير عندما اكتشفت بأن هنالك فريقاً للاجئين، فصرت أتدرب كل يوم، وأحياناً مرتين أو ثلاث مرات في اليوم الواحد، على أمل المشاركة في دورة الألعاب الأولمبية القادمة".
خانكان يتنافس مع زميل له في بطولة العالم للجودو بطشقند عام 2022
وحتى مع غياب أي دعم من أي جهة حكومية، بدأ خانكان بصعود الدرج خطوة إثر خطوة ولكن بسرعة، فأصبح احتمال تأهله لدورة الألعاب الأولمبية في اليابان أمراً وارداً.
ولكن في مطلع عام 2020، تفشى كوفيد-19 في عموم أوروبا، فالتزمت ألمانيا بصرامة بالإجراءات التي وضعتها للحد من انتشار كوفيد، ما تسبب بحرمان عدنان من السفر للمشاركة في الأولمبياد، وبذلك قضي على حلمه بالوصول إلى الألعاب الأولمبية.
السباحة السورية يسرى مارديني أثناء مشاركتها في أولمبياد طوكيو 2020
أفكار مغلوطة عن اللاجئين
بعد سنوات من السعي للحصول على تمويل من أجل التدريب، تمكن عدنان من خلال رسالة إلكترونية أرسلها إلى ماريوس فيزير رئيس الاتحاد الدولي للجودو من تأمين الدعم الذي يحتاجه لتحقيق حلمه الأولمبي، وعنه يقول فيزير: "عدنان لاعب جودو مجتهد يعشق هذه اللعبة، كما أنه صاحب قلب كبير، ثم إن التعاون مع اللاجئين ودعم الرياضيين منهم يعتبر جوهر رسالة الاتحاد الدولي للجودو، وبما أني كنت لاجئاً في أحد الأيام، لذا أتفهم سعيهم ونضالهم ووضعهم الصعب، كما أن الرياضة ليست مجرد أداة لإحلال السلام، بل إنها أيضاً أداة لتحسين حياة الإنسان".
غير أن خانكان يدرك تماماً وصمة العار التي يتعرض لها كثير من اللاجئين، إذ في الوقت الذي نزحت فيه أعداد غير مسبوقة من الناس بسبب النزاعات المستمرة في أماكن مثل أوكرانيا وغزة والسودان، تظهر في الخلفية الانتخابات الأوروبية التي شهدت موجة دعم للمرشحين اليمينيين المعادين للمهاجرين، ولهذا يأمل خانكان أن يتمكن من تسليط الضوء على الحقيقة القائلة بأن اللاجئين بشر عاديون مثل غيرهم، إذ خلال العام الماضي، تشرد أكثر من 114 مليون إنسان بحسب ما وثقته مفوضية الأمم المتحدة العليا للاجئين، وعن ذلك يقول خانكان: "يكرر الإعلام على مسامعنا اليوم في عموم أنحاء أوروبا، وحتى في ألمانيا بأننا نحن اللاجئين مصدر خطر، ولهذا يجب ألا يقترب منا أي أحد، لأننا لسنا أشخاصاً طيبين، وعندما يتصرف أحد اللاجئين تصرفاً سيئاً، يحاول الجميع أن يصف جميع اللاجئين بأنهم أشخاص سيئون، على الرغم من أنهم لا يعممون ذلك على بقية الناس، وهذا ظلم برأيي، ولكن من خلال الرياضة نسعى لتغيير هذه الصورة وهذا التفكير إذ بوسع الألعاب الأولمبية أن تتحول إلى منبر مهم لمحاولة نشر هذه الرسالة".
ويتابع عدنان بالقول: "عندما ينزح أشخاص من دول أخرى ويصبحون لاجئين، قد تنتهي بهم الأمور في مخيمات في الشرق الأوسط أو أفريقيا، واللاجئون المقيمون في تلك الأماكن لا يحصلون على ما يكفيهم من الطعام واللباس، ولا أمل يلوح أمامهم، ولهذا أتمنى أن أساعدهم على تحقيق ذلك من خلال الرياضة ومن خلال برنامج اللاجئين ضمن دورة الألعاب الأولمبية، إذ ثمة فرص لتغيير وضعهم ولتحسين حياتهم".
خانكان أثناء مشاركته في إحدى المباريات
يخبرنا خانكان بأن مجرد فكرة وجود فريق أولمبي للاجئين تكفي لإسكات الأصوات التي تنشر المشاعر المعادية للاجئين، ويعلق على ذلك بقوله: "إن فريق اللاجئين يتحدث لغات مختلفة، وينحدر من أعراق مختلفة، ومن ثقافات مختلفة، لكننا جميعاً نشكل فريقاً واحداً يخوض المسابقات معا، إذ فيه أشخاص سوريون مثلي، وهؤلاء قد يدخلون المنافسة في المسابقات مع رياضيين من إيران أو أفغانستان أو كوبا وغيرها، أي إن كل تلك المصاعب تجتمع في فريق واحد، ولهذا أعتقد أن ذلك بحد ذاته يحمل رسالة مهمة للعالم بأسره، وهي أننا بوسعنا معاً أن نحسن الأوضاع، وأن نحقق أعظم الأمور".
قبل انطلاق دورة الألعاب الأولمبية، يخبرنا خانكان أنه على الرغم من طموحه بإحراز ميدالية في مسابقة وزن 100 كلغ، فإنه يحس بالامتنان والسعادة لمجرد مشاركته في أولمبياد باريس، لأنه بذلك يكون قد حقق طموحه الذي حلم به طوال حياته وأحس في لحظة من اللحظات بأنه خسره، ولهذا فإنه يعتبر كل ما سيحدث عقب حفل الافتتاح الذي سيقام في 26 تموز بمثابة نعمة وفضل كبيرين، وعن ذلك يقول: "لا تهمني النتيجة النهائية كثيراً، لأن هذا هو الخطأ الذي يقع فيه معظم الرياضيين، بما أن تفكيرهم بالنتيجة النهائية يزيد الضغط عليهم، ولكن بما أني شخص خسر كل شيء تقريباً، فإن وجودي هنا شيء سوريالي بحد ذاته، إذ إنني لا أصدق أني على وشك المشاركة في الألعاب الأولمبية، وأني أعيش في دولة آمنة توفر لي فرصاً كثيرة، ولذلك أحس مع شروق شمس كل يوم بأني فزت بميدالية ذهبية".
المصدر: CNN Sports