"القضية السورية تتذيل الملفات التي على رأس اهتمام المجتمع الدولي" هي جملة تتداول دائما على ألسنة شخصيات هيئة التفاوض والائتلاف السوري، بمعنى أن التعامل الدولي مع الملف السوري يكاد أن يكون معدوما مقابل التعامل مع أحداث أخرى أكثر إلحاحاً مثل الحرب على الإرهاب، وإعادة الولايات المتحدة الأميركية نشر قواتها العسكرية بما يخدم أهدافها في مواجهة الصين في المحيط الهندي، ومواجهة الروس لاسيما بعد شنهم الحرب على أوكرانيا، إلى جانب هذه التطورات توجد عوامل إقليمية، بمعنى الدول الإقليمية المحيطة بسوريا والتي تصنف كفواعل في الملف السوري تعيش تحولات نوعية في سياساتها الداخلية والخارجية، وانعكست هذه التحولات على طريقة التعاطي مع الملف السوري، وانطلاقاً من ذلك نسلط الضوء في سطور هذه المقالة على التحولات التي طرأت على سياسات السعودية وتركيا وإيران، وكيف سيكون لهم الأثر على مستقبل سوريا على المدى المتوسط على أقل تقدير.
التحولات الإقليمية
السعودية، أظهرت السعودية تحولاً واستدارة سريعة في تطبيع علاقاتها مع النظام السوري، حيث زار بشار الأسد الرياض مرتين الأولى ضمن اجتماعات الجامعة العربية والثانية ضمن الاجتماع غير العادي بعد عملية طوفان الأقصى، كما تبادل البلدان السفراء. تطبيع الرياض مع النظام هو جزء من تطبيع العلاقات مع طهران وأذرعها، وشمل ذلك أيضا مفاوضات مع الحوثيين في اليمن لوقف العمليات العسكرية. ويمكن تصنيف الاستدارة والتحول غير المألوف في السياسة الخارجية السعودية تجاه تطبيع العلاقات مع خصومها الأكثر عداء لها على أنه نتيجة العمل ضمن رغبة الرياض في تجميد الخلافات وتحقيق الاستقرار الإقليمي بما يضمن نجاح عملية التنمية المتصاعدة التي يديرها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تحت مسمى رؤية 2030 والتي تقوم على تنويع اقتصاد البلاد بإدخال صناعات جديدة ثقيلة وتكنولوجية، وتطوير موقع السعودية لجعله عقدة مواصلات برية وبحرية وجوية دولية، إلى جانب تحويل الدولة لمركز إقليمي للشركات الدولية، واستضافة المعارض والأحداث الدولية.
تركيا المنهكة اقتصادياً والتي دخلت بين عامي 2015 - 2021 في العديد من العمليات العسكرية في شمالي سوريا والعراق وليبيا، ودعمت القوات الأذرية ضد القوات الأرمنية، وأسست القواعد العسكرية في بعض الدول، حتى إنها دخلت في خلافات عميقة مع حلفائها في الناتو دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، غير أنها بدأت مع بداية عام 2022، بتطبيق سلوك وسياسات أقرب للاستقرار وتجميد الخلافات مع الدول الإقليمية والدولية، فإلى جانب عودة العلاقات مع السعودية ومصر والإمارات، تعد زيارة الرئيس أردوغان إلى اليونان في 7 ديسمبر 2023 بمثابة أعلى مستوى من الجنوح نحو الاستقرار، وذلك لأن اليونان تعد دولة صراع تاريخي للأتراك. وتشير هذه الأحداث والسياسات الخارجية الحذرة التي تنتهجها تركيا إلى تبنيها مسار التهدئة أو الهدن المؤقتة مع الأطراف الدولية، بما يحقق لها الاستقرار ويسمح لها في إعادة ضبط وحل مشكلاتها الداخلية لاسيما على الصعيد الاقتصادي. والملف السوري بما يشكله من مصدر توتر وعدم استقرار قد يدفع أنقرة للذهاب ببطء لقبول التطبيع مع النظام السوري، وما هي إلا مسألة وقت وتحديد خارطة الطريق لتعود العلاقات السياسة الدبلوماسية.
إيران، وصلت إلى مراحل متقدمة من المفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية بخصوص رفع العقوبات المفروضة عليها مقابل إيقاف تخصيب اليورانيوم، وإدخال لجنة مراقبة دولية لمنشآتها النووية. وقد أسفرت المحادثات الأخيرة بين الطرفين عن إفراج الولايات المتحدة الأميركية عن 6 مليارات دولار لإيران، ومن المتوقع أن تحقق طهران انفراجة أكبر على صعيد تخفيف العقوبات بعد السلوك الذي أظهرته تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة والذي يمكن وصفه بالإيجابي تجاه التزاماتها للغرب. إيران من مصلحتها المحافظة على الوضع الراهن في سوريا لسنوات، وبأقل تقدير حماية مراكز نفوذها من أي خطر خارجي، ومن دون التوسع على الأرض، بما يسمح لها بتحقيق تقدم وانفتاح على المجتمع الدولي لاسيما السوق الأوروبية التي تراها شريكاً تجارياً مهماً.
مستقبل سوريا في ضوء التحولات الإقليمية
إلى الآن لم يقدم الجانب السعودي للنظام سوى الاعتراف الدبلوماسي، ولم يمنحه مساعدات مالية تسهم في التعافي المبكر حتى تاريخ كتابة هذه المقالة، لذلك أرى أن السعودية قد تكون بأي لحظة أمام استدارة في سياستها تجاه النظام السوري، وقد تتراجع عن التزامها مع النظام إذا طرأ حدث معين، فعلى سبيل المثال عودة ترامب إلى البيت الأبيض قد تعيد الحصار على إيران والتي بدورها قد ترد من خلال ضرب منشآت نفطية في السعودية، وهذا كفيل بعودة توتر العلاقات مع المحور الإيراني. ومن المهم التأكيد أن النظام لم يستطع إلى الآن ضبط تصدير المخدرات إلى السعودية وهو تحد للعلاقات بين البلدين.
الحقيقة الصعبة التي يجب أن نقف عندها أن الرياض ذاهبة لتجميد كل الخلافات مع النظام الإيراني وأذرعه لمدة لا تقل عن عشر سنوات، لأن الرياض تقوم الآن بتجهيز البلاد لاستضافة أكبر حدثين عالميين، الأول إكسبو 2030، والثاني بطولة كأس العالم 2034، وإنجاح هذين الحدثين يتطلب مستوى متقدماً من الاستقرار وتجميد كل ملفات الخلاف والتوتر مع دول المنطقة.
ومن جهة إيران وسلوكها في سوريا فهو مرتبط إلى حد كبير بسياسات الولايات المتحدة الأميركية تجاهها فكلما ارتفع الضغط عليها حركت الملف السوري عبر ضرب مراكز وجود القوات الأميركية في شرق سوريا ضمن قواعد الاشتباك المحددة بين الطرفين، ومن غير المتوقع أن تجازف بمسار تقدم المفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية، وكما ذكرنا في فقرة سابقة قد تكون عودة ترامب للبيت الأبيض فارقة كبيرة تجاه سياسات إيران في سوريا.
تركيا، قد تكون الطرف الأكثر حركة في سوريا في الفترة القادمة مقارنة بالفواعل الإقليمية الأخرى، فعلى الرغم من تطبيقها مسار تهدئة مع كل الأطراف الدولية إلا أنها قد تبدي تحولاً في سياستها تجاه سوريا في مناطق شرق الفرات، لأنه لدى أنقرة فرصة كبيرة لشن عمليات عسكرية ضد قوات قسد والتي تصنفها أحد أذرع قوات الـ pkk والتي تصنف دولياً إرهابية، وذلك من خلال التذرع بالحرب التي شنتها إسرائيل على غزة، حيث ادعت أن قوات القسام الموجودة فيها تشكل خطراً على أمنها القومي والدول الغربية دعمت إسرائيل في هذه الحرب، ومن الممكن أن تنتهز تركيا الفرصة وتشن عملية عسكرية ضد قوات قسد متذرعة أنها تشكل تهديداً للأمن القومي التركي.
نستنتج من سطور هذه المقالة أن التحولات الإقليمية لدول النفوذ على سوريا تسعى إلى تحقيق الاستقرار على مستوى منطقة الشرق الأوسط، بما يحقق لهم العوائد المادية الملحة التي يطمحون لها، وسوريا كجزء من منطقة الشرق الأوسط يبدو أن هناك اتفاقاً على المحافظة على وضعها القائم الحالي على المدى المتوسط، ومن المحتمل بقاء الملف السوري في حالة جمود لفترة زمنية لن تكون قصيرة، ومن المرجح أن تبقى خريطة النفوذ الحالية هي الواقع الذي سيتعايش معه السوريون لسنوات، إلا أن حالة عدم اليقين التي تحكم صناعة السياسة والعلاقات الدولية قد تفرض تغيير معادلة الواقع الحالي بحدوث تغيرات إقليمية ودولية تقلب المعادلة في سوريا وبالتحديد على النظام، وقد تدفع الدول الفاعلة بالملف السوري إلى تفعيل أدوات التعامل مع النظام، مثل فرض تطبيق قرار 2254، وملاحقته في المحاكم الدولية لارتكابه جرائم إرهاب بحق السوريين، كما يمكن دعم الحراك العسكري ضده، إلا أن تفعيل هذه الأدوات ستكون مدفوعة بتحرك إقليمي ودولي بتقلص النفوذ الروسي في سوريا، والتزامات أمنية لدول الخليج العربي وتركيا.