ستبدأ مرحلة ازدواجية السلطة في سوريا في الربع الأخير من عام 1968 لتشهد لعبة الصراع الأخير على السلطة بين آخر المتحاربين، الصديقين سابقاً، حافظ الأسد وصلاح جديد. كما ستشهد تلك المرحلة الانقلاب الأكثر تأثيراً في تاريخ السلطة في الدولة السورية، ولعلها المرحلة التي لم تأخذ حقها في البحث من ناحية أنها أرّخت لانتقال مركز القوة والسلطة من حزب البعث باعتباره المهيمن على الدولة ومؤسساتها ومن ضمنها الجيش، ليصبح المركز في الجيش الذي سيهيمن على الدولة والحزب معاً، ويحول الأخير لأداة ضبط اجتماعي تابعة لمؤسسة الجيش قبل أن تنزاح مرة أخرى لتصبح السلطة بيد الميليشيات المسلحة البديلة التي ستخضع الدولة والحزب والجيش لحكمها. بعبارة أوضح ستنهي تلك المرحلة حكم البعث في سوريا، وسيبدأ حكم الجيش.
رغم تغول العسكر على الحكم في سوريا في مرحلة مبكرة من الاستقلال، إلا أن ذلك التغول سيتأتي دائماً عبر إحلال الضباط على مقاعد الحكم المدني، وسيتصدر الجنرالات "المزيفون" في مرحلة البعث الواجهة السياسية ما بين 1963 وحتى 1968.
الحكام العسكريون الذين هيمنوا على السلطة في سوريا كانوا في الوقت نفسه هم أعضاء القيادة القطرية والقومية، وبالتالي استندوا في شرعيتهم في الحكم من واقع قيادتهم لحزب البعث على اعتبار أنه القائد للدولة والمجتمع، ولذلك احتدمت الصراعات بين أقطاب العسكر للحصول على مكان لهم ولأنصارهم في مكاتب القيادتين القطرية والقومية، القيادة السياسية حينها. يبدو ذلك لأن موازين القوى في الجيش لم تكن موحدة عبر قبضة جنرال واحد يضع بيده مفاتيح القوة كلها، وسيستمر ذلك حتى يتم للأسد وضع كل تلك المفاتيح في يده ويعلن بثقة مطلقة جملته التي افتتحت مرحلة ازدواجية السلطة: "أنا لا أعترف بهذه القيادة السياسية".
سينضم صلاح جديد للجنة العسكرية البعثية عندما كان ضابطاً في مصر، ونتيجة عملية ترميمية في اللجنة بعد خروج جنرالات منها نتيجة تحويلهم للسلك الدبلوماسي، وكما سيأتي محمد عمران بصلاح جديد للجنة العسكرية، سيأتي الأخير بحافظ الأسد.
سيعيش الأسد تحت جناح صلاح جديد حتى يسلمه وزارة الدفاع. حافظ الأسد الذي كان برتبة نقيب عام 1961 سيكون وزيراً للدفاع بعد أقل من ست سنوات. لم يمتلك الأسد ولا جديد الضابطان الصغيران بحكم العمر العسكري الكبيرين بقوة السياسة خبرة عسكرية تمكنهم من قيادة جيش وخوض معركة قائمة بشكل يومي مع إسرائيل، لكن خبرتهم ستكمن في حيك المؤامرات السياسية واللعب بالخيوط للوصول للسلطة.
يصف كل من عمل مع صلاح جديد عبقريته في قدرته الفائقة على عزل خصومه وتشكيل تحالفاته ثم تفكيكها، وتمكنه من نقل الأشخاص بسهولة من خانة الأصدقاء لخانة الأعداء والعكس بما يضمن له وصوله للسلطة وبقاءه فيها، وسيأخذون عليه جهله في السياسة الخارجية وجهله لتموضع سوريا ولنمط العلاقات الدولة والإقليمية.
يصف كل من عمل مع صلاح جديد عبقريته في قدرته الفائقة على عزل خصومه وتشكيل تحالفاته ثم تفكيكها، وتمكنه من نقل الأشخاص بسهولة من خانة الأصدقاء لخانة الأعداء والعكس
بالمقابل لم يكن حافظ الأسد، أو لم يكن قادراً، سوى أن يكون التابع المخلص لصلاح جديد، حتى لعب دوره المهم في انقلاب 1966 ضد القيادات المدنية أو السياسية لحزب البعث، والتي ستكون الخطوة الأولى بالانقلاب على البعث نفسه من ناحية أنه المؤسسة الحاكمة للدولة السورية، وليصبح بعدها وزيراً للدفاع.
من المسلَّم به أن صلاح جديد كان راديكالياً، لكن هل كانت راديكاليته نابعة عن إيديولوجيا يؤمن بها؟ من المرجح أنها لم تكن كذلك، وهو القادم من الحزب القومي السوري الصورة النقيضة لحزب البعث الذي سينضم إليه لاحقاً. هل كان يسارياً اشتراكياً؟ لهذا أيضاً تبريراته الوسائلية، فجديد الذي سيرتبط اسمه باليساريين الثوريين والاشتراكيين في المراحل الأولى من انقلاب البعث من عيار ياسين الحافظ وعبد الكريم وخالد الجندي وآخرين من خارج البعث من أمثال قيادات في الحزب الشيوعي، هو نفسه الذي أبعدهم وأقصاهم بل واتهمهم بانحرافات عن مسيرة البعث كما فعل مع خالد الجندي الذي اعتبره قد أنشأ الميليشيات العمالية من دون علم الحزب، أو اتهام اليساريين بجرهم الحزب لمظلة الأممية الشيوعية.
ستكون هزيمة حزيران - التي ستظهر بوضوح انعدام الخبرة العسكرية لجديد وحافظ الأسد ورفاقهم من قادة الجيش وأولويتهم في حماية سلطتهم على حماية الحدود - المفترق الرئيسي الذي سيبني من خلاله الأسد طريقه بعيداً عن جديد بنفس أسلوب الأخير.
سيبدأ حافظ الأسد ببناء قوته الخاصة المستقلة عن جديد قبل أن يصبح وزيراً للدفاع، وسيرفض ضم المخابرات الجوية لجهاز الأمن القومي المتشكل بمنتصف الستينات ليكون هذا الجهاز نواة مملكته الأمنية اللاحقة، وسيتمكن بعد الفوضى التي أحدثتها هزيمة حزيران من الاستفادة من كل فرصة ممكنة لتعزيز انفصاله عن مسار جديد وهيمنته. إلا أن المرتكز الأساسي في ثقته بالانفصال عن ذلك المسار كان قرار صلاح جديد بالتخلي عن بزته العسكرية وتسليمه الجيش عبر وزارة الدفاع للأسد، بمقابل تسلمه للمنظمات الحزبية وقيادتها على اعتبارها المؤسسة الحاكمة في سوريا.
بعد حرب 1967 سيجتذب حافظ الأسد إليه الضباط الذين اتهموا بالإهمال في الحرب وحماهم، كما سيستخدم الهزيمة لخلق مسار مستقل في الحزب والجيش عن مسار جديد، فلما أعطى صلاح جديد الأولوية لمسار التحول الاشتراكي في سوريا، اتجه الأسد للمناداة بالمصالحة الداخلية مع مختلف طبقات الشعب، مما جذب الملاك ورجال الدين وغيرهم من القوى الاجتماعية إليه.
من ناحية السياسة الخارجية، وبخطوة متهورة من جنرالات فاشلين ستعلن سوريا خط "الحرب الشعبية" ضد إسرائيل رداً على الهزيمة، والتي كانت أكبر من إمكانيات وقدرات الدولة السورية. بداية انضم الأسد لرؤية جديد، ثم سرعان ما انفصل عنه، واتجه لتسوية الأمور مع الأنظمة العربية بغض النظر عن توصيفها "البعثي" منادياً بوحدة الكفاح العربي، بينما سيستمر جديد بنداءاته الراديكالية واهماً بأنها تخدم بقاءه على رأس السلطة، ناعتاً تلك الأنظمة من مثل السعودية والأردن بالقوى الرجعية. سينفتح الأسد أيضاً على إعادة التعاون مع ألد الخصوم للبعثيين، والمتمثلين بالبعثيين في العراق، الذين احتووا القيادة القومية للبعث التي انقلب عليها جديد.
سيبدأ الصراع بشكل أوضح بعد اجتياح القوات البرية السورية للأردن بحجة الدفاع عن الفدائيين الفلسطينيين، في مغامرة ترسخ للفشل في فهم السياسة الخارجية وقدرات الدولة من قبل جديد، فهو يدخل بإمكانيات دولة قد انهزمت للتو في حربها، وتعاني عزلة كبرى نتيجة خطاباته وسياساته الراديكالية. ستُبيد الدبابات الأردنية القوات البرية السورية في ظل انكفاء سلاح الجو السوري عن التدخل بأمر من حافظ الأسد، وسيبرر الأخير ذلك بأن دخوله سيؤدي لاشتعال حرب إقليمية بين دولتين عربيتين، وأن الدخول البري كان مغطى بحجة أن المدرعات المتدخلة لم تكن قوات سوريا، وإنما من قوات جيش التحرير الفلسطيني، في حين يصعب تغطية التدخل الجوي سياسياً بتلك الحجة.
لم يترك الأسد فرصة أيضاً في التنقلات العسكرية إلا وأخضعها لصالحه، وسيشكل إقطاعات خاصة له في الجيش مبنية على أساس طائفي وعشائري، ولعل الجملة الواردة في رسالة الانتحار التي تركها عبد الكريم الجندي رئيس مكتب الأمن القومي في قيادة البعث أحد أنصار جديد، والذي أقدم على الانتحار عام 1969 نتيجة تضييق الخناق عليه من قبل رفعت الأسد توضح ذلك: "لقد حاولت باستمرار أن أكون متجرداً من كل العلاقات الاجتماعية البالية لإيماني المطلق بأنها لا تبني معركة الشعوب.. في نفس الوقت كان غيري يركز باستمرار ويتمسك بهذه العلاقات من أجل دعم موقفه الشخصي وحماية نفسه".
سيتخلص الأسد من أحمد المير أحد أعضاء اللجنة العسكرية والمناصر لجديد بتحميله مسؤوليةً في هزيمة حزيران على اعتباره آمر الجبهة في الجولان بعزله عن منصبه وتعيينه سفيراً في مدريد. وسيستفيد من إقصاء الجنرال الحوراني أحمد سويداني عن رئاسة الأركان ليضع عليها مصطفى طلاس الذي لم يكن سوى ذيل للأسد حتى موته.
سيصل ذلك الصراع إلى ذروته في المؤتمر القطري الرابع للحزب في أيلول 1968، حيث سيستهجن أنصار جديد في مفارقة مضحكة في المؤتمر تدخل العسكر في شؤون قيادة الحزب ومؤسسات الدولة، ويأتي هذا الاستهجان من ناحية أن قادة الحزب بغض النظر عن خلفيتهم هم قادة الدولة، أم العسكر الذين كانوا قادة مؤسسة الجيش فحسب فلا شأن لهم بذلك.
لن ينقض الأسد مباشرة على البعث، حيث كان لواء المدرعات 70 ما زال تحت قيادة عزت جديد أحد أنصار صلاح جديد، بل سينتظر حتى يعزل عزت جديد عنها، ولكنه سيحاول أن يعرقل انعقاد المؤتمر حتى لا يأتي بنتائج ضده، فمنع أعضاء قيادة فرع اللاذقية من الوصول لدمشق، وسيطر على الصحف والتلفزيون والإذاعة، ورداً على ذلك شجبت القيادة القطرية هذه التصرفات غير الشرعية لوزير الدفاع وأعلنت في تعميمٍ داخلي أن "قيادة سلطة الدولة لم تعد في يدي الحزب".
بعد عزل أنصار جديد عن لواء المدرعات أصبح الطريق معبداً للأسد، وفي محاولة يائسة من جديد دعا لعقد المؤتمر القومي الاستثنائي العاشر للبعث، وانتقد في خطابه تصرفات العسكر وامتيازاتهم، وقرر المؤتمر إقالة حافظ الأسد من وزارة الدفاع. إلا أن الوقت كانت قد تأخر على هكذا خطوة، ففي الوقت نفسه كان حافظ الأسد يجتمع بـ 500 ضابط في مقر القوى الجوية، ويعلمهم بأنه أقدم الأعضاء العاملين، وأن هؤلاء في المؤتمر جاء بهم الجيش، وهو يعرف كيف يتعامل معهم. ليعلن في صبيحة 16 تشرين الثاني عن حركته التصحيحية ويبدأ انقلابه على البعث، ويحوله من مؤسسة حاكمة لأداة من الأدوات التي يحكم بها، ويضع الجيش على رأس السلطة في سوريا.