مدينة الفيحاء.. كيف يصبح الإبهار كاذباً؟

2024.09.11 | 09:12 دمشق

64565
+A
حجم الخط
-A

تبهرك (الفيحاء) في دمشق من النظرة الأولى حقاً، داخل قسمها المُسَيَّج التابع للاتحاد العسكري (إدارة الإعداد البدني والرياضة في الجيش والقوات المسلحة - نادي الجيش) ما يسرّ الناظرين سوريّاً، مدينة رياضية متطورة متكاملة مجهزة بأفخم التجهيزات وبناها مهندس أنيق جاء من الخارج على الأرجح، لأنها لا تشبه سوريا الأسد الغامقة في شيء، بل واسعة نظيفة مهندمة، مكاتبها الإدارية أقرب للفنادق، ومن أشجار حدائقها المبستنة بتهذيب هندسي تفوح العطور، هناك ترى الدولة كلها بصفها الأول، من أبناء الرئيس إلى الضباط الكبار، ترى الوجه (الحضاري) من جماعة رسمنا لهم صورة ذهنية جماعية مغايرة، سلامات يمثلونها بإتقان رفيع، أحاديث جانبية يتخللها بعض المزاح، ضحكات تقنعك بأنها حقيقية، احترام للذات ولغيرهم يؤدى بشكل مقبول، تشعر أنهم جاؤوا ليكونوا طبيعيين في فسحات فردية خالصة.

الابتذال والاستعراض غير وارد غالباً، الاعتياد نظّم كل البروتوكولات، في الصباح يتداورون وبعد العصر للقصر، لهجات الزائرين تداخلت مع الشاميّة إلى حدّ كبير فأخفت أصولهم والبيئات التي انحدروا منها، عدا الشرقيين، ضباط دير الزور يشربون معك الشاي ويلقون لك نكتة، تثير ضحكاً يلفت انتباه البقية لبلاغتها.. يذهب الضابط المرضي عنه من رتبة عميد فما فوق إلى الفيحاء لممارسة الرياضة قولاً واحداً، فهي مدينة رياضية وليست ناديا للضباط كالذي في أبو رمانة، لا تقام فيها لقاءات رسمية وعروض عسكرية ودعوات عشاء ومسارح فنية، إنما صالات مغلقة لكرة اليد والطائرة والسلة والريشة والتنس الخارجي وتنس الطاولة والمسابح المغلقة والمكشوفة وملاعب كرة القدم متعددة الأحجام ومضمار ألعاب القوى وكل أنواع الرياضة تقريباً عدا الفروسية، التي حُجِزَ لها مكانة منزوعة الإبهار في الديماس.

مدينة الفيحاء كانت لعظام الرقبة ونخاعها الشوكي وخلاياها العصبية من العسكريين والبحوث العلمية وآخرين لا يُفصحون عن وظائفهم في الدولة إن امتد الخراب من الفيحاء إلى مالطا.

غالبية (الخواجات) على مشارف الستين أو تجاوزوها، نالت من أجسادهم التخمة واستراحت أكوام الدهون تحت جلودهم السميكة في الشعور، جامع جامع الأكثر صلافة من البقية كان يسبح في المسبح الخارجي بدرجات حرارة صفرية، حسام لوقا تعلّم الريشة الطائرة كهاوٍ ثم مارسها كمحترف، العميد علي الصليبي ظل عسكرياً فظاً يرتاد النادي دون ممارسة أي لعبة، العميد ياسر شاهين مدير نادي الجيش بقي أنيقاً مهيباً على الدوام حاله حال اللواء موفق جمعة رئيس الإدارة (2009)، ساعدا اللاعبين والعسكريين بصدق، لكنهما اتخذا قراراً مشتركاً مؤسفاً بالبقاء هناك.

الآباء يؤدون دور العاديين بدرجة أكثر إتقاناً من الجراء الصغار، أبناؤهم أبناء مسؤولين سلوكاً، بعضهم لديه موهبة فعلية برياضة ما، يستطيع أن يراوغ أو يسدد أو يسبح أو يصارع بدرجة المحبّ، وبعضهم الآخر منغلق على نفسه وأمنياته، يأتي لتحسين بنيته الجسدية ولياقته البدنية، يريد أن يصبح ضابطاً وانتهى، ثم يغادرون بحراسات عادية، أحياناً لا بأس بها.

مدينة الفيحاء كانت لعظام الرقبة ونخاعها الشوكي وخلاياها العصبية من العسكريين والبحوث العلمية وآخرين لا يُفصحون عن وظائفهم في الدولة إن امتد الخراب من الفيحاء إلى مالطا، إنْ لعبتَ معهم وأحبوك كرياضي عسكري تؤدي خدمتك الإلزامية في نادي الجيش منتدباً إليه من قطعتك الأساسية، قالوا لك اطلب بسخاء واتخذوك نصف صديق في الحياة المدنية عندما تتسرح، وإن كنتَ مفروزاً إلى هناك من ثكنتي النبك أو هنانو بغرض الحراسة وبعض المهام الإدارية في المنشأة فالغلطة محظورة والخطأ قد ينقلك إلى الحدود مع العراق لإكمال خدمتك منفياً إذا تذاكيت أو تدخلّت لمعرفة تفاصيل يجتهدون لإخفائها، إلا إنْ زلت ألسنتهم أمامك مصادفةً لانتقاد هذا الزائر أو ذاك: "إجا ابن الكلب".

أضواء ملاعبها الكاشفة تنير المكان ليلاً، تؤنسه وتبهره، وأضفت إقناعاً مقبولاً على وجوه المرتادين بأنهم انزاحوا نحو حياة مدنيّة أكثر طبيعيّة وإنسانيّة.

 

من إدارة الإمداد والتموين على طول شارع برنيّة مروراً بمشفى الدكتور هشام سنان إلى ساحة الميسات، تمتدّ الفيحاء جغرافياً، السفارة الروسية على زاويتها مع مشفى الحياة ببنائها السوفييتي الأصمّ والأمن السياسي على تقاطع جسر العدوي، لم يتمكنا كفايةً من النيل من الصورة الجمالية الكلية للمكان، حافظت البقعة على رونقها الداخليّ والمحيطيّ دوماً بسبب طبيعة الضيوف وأغراضهم الترفيهية ربما، تراها رحبة إن مررتَ قربها بسرفيس برزة مسبقة الصنع، واعتُني بخضرتها إن نظرتَ إليها من ميكرو ركن الدين صناعة، وضخمة فيما لو توقفت على إشارتها المرورية بباص شارع الثورة مشفى حاميش، أضواء ملاعبها الكاشفة تنير المكان ليلاً، تؤنسه وتبهره، وأضفت إقناعاً مقبولاً على وجوه المرتادين بأنهم انزاحوا نحو حياة مدنيّة أكثر طبيعيّة وإنسانيّة.

فتسأل نفسك اليوم، بعد مرور الوقت، من ارتكب كل هذا إذاً؟

لا يمكن لغالبية من كانوا هناك أن يفعلوها، أداؤهم البشري حينذاك ألمح إلى ترفعهم عن استساغة انتزاع الأرواح، وهذا ما يفسر الخشية السوريّة من طرح الأسئلة المكبوتة عن المواطنة والتعايش مع مجموعة، بحاجة إلى وزارة لترويض المجرمين، أكثر من حاجتهم إلى الحديث مع الآخر أو إلى مدينة الفيحاء التي أخفت خلف إبهارها صورة كاذبة للدولة ورجالاتها.