ظلَّ خائفاً يرتجف قلبه إن طُرق باب بيته ليلاً، حتى وفاته، وحتى بعدما حاز وسام الاستحقاق، أعلى وسام في سوريا.. كان لا يفتح الباب ليلاً لأي طارق كائناً من كان، لأنه كان يظن أن "زوّار الفجر" قد جاؤوا لأخذه!.
لم يمكث في السجن إلا عاماً واحداً؛ على فترتين، تسعة أشهر إثر اغتيال عدنان المالكي عام 1955، وثلاثة أُخَرَ عَقِبَ محاولة انقلاب القوميين في لبنان عام 1961 إذ كان الماغوط محسوباً على "الحزب السوري القومي الاجتماعي"، وهو ما تسبب باعتقاله في المرتين.
إلا أنَّ هذا العام كان كافياً ليصبغ عمر الفتى الريفيّ الفقير بالأسى والخوف حتى نهاية رحلته مع الحياة، فالسجن له شروش تمتدُّ إلى القلب والروح والعقل، وتعشّشُ في الركبتين!..
ومن هناك، من سجن المزة بدمشق بدأت رحلة الماغوط مع القصيدة، التي كتبها ولم يعرف ماهيَّتَها، فكتب قصيدته المكتملة الأولى "القتل"، وهناك أيضاً بدأ لعبة المسرح، وشخبط مذكراتٍ كانت مادة روايته الوحيدة فيما بعد، وهناك تعرف إلى أدونيس، الذي سيكون له دور حاسم في حياة الماغوط الأدبية في مرحلة بيروت، بعد خروجه من السجن بقليل، علاقة امتدت أبعد من الأدب، فكانا "عديلين" تزوجا الأختين، خالدة سعيد (زوجة أدونيس)، وسنية صالح (زوجة الماغوط) التي أحبها كما لم يحب أحداً، وآمنتْ به كما لم تؤمن بأحد.
ومن جَوْرِ أبيه وعُسرِ حاله وظلم ثانويته الزراعية (ثانوية خرابو بدمشق) التي فضحتْ فقره عندما راسلها والده مستجدياً الرفق بقلة حيلته، ومن عَسَفِ السجن والسجان بعد ذلك، تسرَّب الفتى اليائس إلى لبنان متكئاً على قدميه وهمَّته التي لا تلين.. وهناك بدأت مع "مجلة شعر" قصة البدويِّ الذي أنجز أعظم قصيدة نثرٍ في القرن العشرين، وربما بعده، فحتى الكلاسيكيون الذين انبَرَوا لمجابهة الحداثيين، استثنوا الماغوط من هجماتهم، بل زادوا بأن جعلوه مثالاً لا يُطال، قائلين: اكتبوا مثل محمد الماغوط لنعترف بكم شعراءَ وبنثركم قصيدة!
من سجن المزة بدمشق بدأت رحلة الماغوط مع القصيدة، التي كتبها ولم يعرف ماهيَّتَها، فكتب قصيدته المكتملة الأولى "القتل"، وهناك أيضاً بدأ لعبة المسرح
ولأنه حمل مشاعرَه وغضبه وأفكاره على لغةٍ عاديةٍ بسيطة، وظلَّ متمرداً على السلطة بكل معانيها وتجلياتها، صار شاعر الناس، وإنْ بأسلوبٍ يحاربونَهُ عندما يصدُرُ عن غيره.. وزاد التصاقاً بالشارع عندما افتتح عصر المسرح السياسي في سوريا مطلع السبعينات، فشكّل مع دريد ونهاد ثلاثياً حفر في ذاكرة العرب المسرحية، من خلال أعماله (غربة، ضيعة تشرين، كاسك يا وطن..) وأتبع المسرح بالسينما في فيلمي "التقرير والحدود"، وانبرى للشاشة الصغيرة في "حكايا الليل ووادي المسك ووين الغلط".. قبل أن يكتشف الفخ الذي أُعِدَّ له، فقد ابتزُّهُ فنان السلطة المتخفي دريد لحام، واستخدمه جواز سفرٍ ليعبر.. كما قال عنه الماغوط، مختصراً عشرين عاماً من الخديعة.
علاقته بدريد لحام كانت علاقة الضرورة فيما يبدو، فقلة من الناس يتهمون الماغوط بأنه كان جزءاً من سياسة "التنفيس" التي انتهجها نظام حافظ الأسد منذ سبعينات إلى تسعينات القرن الماضي، وكان منفذها الأول دريد لحام، يليه ياسر العظمة، وفق رأي هؤلاء، فيما يذهب الأكثرية إلى تبرئة الماغوط والقول بنظرية خديعته واستثمار كتاباته من قبل فناني السلطة ومؤسساتها الثقافية والفنية.. أما الماغوط نفسه فقد سوَّغ هذا التعامل بالقول إنه كان الطريق الوحيد أمامه للوصول إلى الناس، فلم يُترك طريق آخر للرجل، وفق ما نقل ابن مدينته الأديب خضر الآغا عن أحد أصدقائه.. وعندما زادت جرعة الادعاء والتحريف في جوهر الأعمال من قبل دريد، لجأ الماغوط إلى المقاطعة ثم القطيعة، ولم يستطع كبار فناني العرب ثنيه عن رأيه وموقفه، ليهوي نجم دريد، ويبدأ مشوار الفشل، الذي رافقه في كل أعماله الفنية في مرحلة ما بعد الماغوط!.
الجوع والبرد والسجن والخوف، هي مفردات الماغوط التي لم يستطع الخروج منها، حتى بعدما أَمِنَ جانب السلطة وتمَّ تكريمه بوسامها الأعلى عام 2005 إلى جانب سليمان العيسى ووليد إخلاصي، فهو تكريمٌ لمشروع وليس لشخص أو إبداع؛ كما يرى الماغوط، مؤكداً أنه لم ولن يتصالح مع السلطة، وأن الشاعر والأديب لا يمكن أن يكون أبداً صديقاً للسلطة في أي زمان أو مكان، بل إن مديح السلطة لأيِّ عمل فني أو أدبي يؤكد أنَّ ثمة خطأ ما..
وبعد مشوار أدبي حافل، صنعته بيروت في عصرها الذهبي، ومرحلة صحفية ذهبية في الشارقة أنتج فيها ملحق الخليج الثقافي، أحد أهم المنابر الثقافية في وقته، عاد الماغوط إلى دمشقه، دمشق الناس وليس دمشق السلطة، ومنها وبإصرارٍ مضى لملاقاة صديقه الموت، مصرَّاً على يأسه وخوفه وسيجارته وأخطائه اللغوية.. ضارباً موعداً نهائياً مع دمشق التي تأخذ ولا تعطي.. ولكنه يحبها، كما يحبُّ "سلمية" مسقط رأسه التي عاد إليها سبباً من أسباب الخلود.