في 30 أيلول 2015 بدأت روسيا قصفها الجوي على السوريين، معلنة بذلك بدء أول عمل عسكري روسي منذ الحرب الباردة خارج حدود الاتحاد السوفييتي السابق. اليوم وعلى أبواب الذكرى الثامنة للاعتداء الروسي على سوريا إبّان انطلاق الثورة الشعبية ضد نظام الأسد في ربيع 2011، لا بد لنا أن نقف لنطرح بعض الأسئلة الملحة: لماذا تدخلت روسيا في سوريا عسكرياً وبالحديد والنار؟ ما هو الحجم العسكري الحقيقي لروسيا في سوريا؟ وإلى متى ستبقى في سوريا؟ هل أثرت الحرب الروسية الأوكرانية على نفوذ روسيا العسكري في سوريا؟ الإجابة لن تكون سهلة خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار تاريخ العلاقات السورية الروسية التي تعود إلى ما قبل انقلاب حزب البعث العسكري عام 1963. فالاتحاد السوفييتي كان بالفعل داعماً لسوريا منذ خمسينيات القرن الماضي، حتى إنه اعترف باستقلال سوريا من الانتداب الفرنسي قبل أن تغادر آخر الفرق العسكرية الفرنسية البلاد عام 1946.
الهدف المعلن والنية الحقيقية
الكرملين يعتبر الربيع العربي خطة "غربية" تستهدف موسكو ومصالحها في المنطقة. وما حدث في ليبيا هو برهان على ذلك، فتدخل حلف شمال الأطلسي العسكري الذي أدى بالنهاية إلى مقتل حليف موسكو "القذافي" هو درس مؤلم لروسيا. إضافة إلى ذلك، لطالما كان الهدف الأساسي والرئيسي لموسكو منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى تسلّم فيلاديمير بوتين الحكم، هو اتساع التأثير الروسي في المنطقة مقابل القوى الغربية، وإيجاد نظام عالمي متعدد الأقطاب بدلاً من القطب الواحد المتمثل بالولايات المتحدة الأميركية، والمحافظة على البوابات البحرية في كل من البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط. وتدخل روسيا في سوريا على الرغم من تعدد أسبابه فإنه يأتي في هذا الإطار. بوتين استخدم استراتيجيات سياسية وعسكرية معاً للحفاظ على وجوده ووجود نظام الأسد في سوريا. بالنسبة له ومن خلفه الكرملين، سقوط الأسد هو "انتصار" للغرب، كما أن تغيير الحكم في سوريا سيشكل تهديداً لمصالح روسيا في المنطقة. حجم الأسلحة التي جلبتها روسيا إلى سوريا ونوعيتها وتعددها، يعطي إشارة إلى أن هدف روسيا لا يتوقف فقط عند دعم بقاء نظام الأسد في السلطة في سوريا، بل الهدف الأكبر هو منع أي محاولة "غربية" لإيجاد مكان لها على الأرض في سوريا، خصوصاً أن كثيراً من هذه الأسلحة هي ضد الهجمات الجوية. فهل للمعارضة السورية أو لأي طرف معارض للحكم من داخل سوريا أي أسلحة جوية؟
من ناحية أخرى، تعدّ سوريا وليبيا من أكبر مستوردي السلاح الروسي في المنطقة وذلك بصفقات تُقدر بمليارات الدولارات، وأي خلل في هذه الأسواق سيؤدي بالطبع لخسارات كبيرة في سوق السلاح الروسي. لكن لنعد هنا بالذاكرة للظروف السياسية والعسكرية التي سادت في سوريا مع بدء القصف الروسي عام 2015، فوقتها كانت أميركا قد بدأت بالفعل بتشكيل التحالف الدولي للقضاء على تنظيم داعش الذي تشعّب وسيطر على مناطق عديدة في سوريا. روسيا لم تكن جزءاً من هذا التحالف، لكنها بالتأكيد استغلت وجود داعش في سوريا بأبشع الطرق. القصف الجوي الأول لروسيا في سوريا جاء على مناطق في ريفي حمص وحماة تحت ذريعة "ضربات جوية موجهة على مواقع إرهابيي تنظيم داعش"، وهو أمر نفته وزارة الدفاع الأميركية قائلة إنه على الأرجح لا وجود لداعش في المنطقة التي استهدفتها روسيا، حتى إن الحلف الأطلسي صرّح أن الضربات الجوية الروسية "ربما دمرت مناطق في البلاد تسيطر عليها المعارضة السورية"، كما أكد وقتها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية بأن القصف أدى لمقتل نساء وأطفال. إذاً، تدخل روسيا جاء بحجة مواجهة الإرهاب وخصوصاً "جبهة النصرة" التي لطالما تذرعت بها موسكو للتغطية على قصفها العنيف بشتى الأسلحة والقنابل على رؤوس المدنيين. مكافحة الإرهاب أصبحت شماعة موسكو للتدخل للحيلولة دون سقوط الحليف الرئيسي وهو نظام الأسد. هذه الشماعة ذاتها أيضاً التي لجأت لها موسكو لتبرير هجماتها الوحشية على مدينة حلب عام 2016، هذا الهجوم الذي وصفه رئيس مكتب الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة ستيفن أوبريان آنذاك بأنه "جحيم"، خصوصاً مع استهداف البنية الصحية في المدينة حيث تعرضت أكثر من ستة مستشفيات للهجوم ودُمرت بالكامل أو أجزاء منها. روسيا سبق لها أن حرقت العاصمة الشيشانية غروزني فوق رؤوس سكانها بحجة القضاء على الإرهاب وسط صمت العالم، فأين المشكلة في تطبيق الخطة نفسها تحت الذرائع نفسها في سوريا هذه المرة خصوصاً في اللحظة التي شعرت بها روسيا بالتهديد الحقيقي بسقوط نظام الأسد؟
هل انشغلت روسيا بأوكرانيا ونسيت سوريا؟
الجواب على هذا السؤال يعتمد على الزاوية التي ننظر منها للأمر. إعلامياً، نعم انشغل الإعلام بأوكرانيا ونسي سوريا تقريباً لأن الطبيعي أن يغطي الإعلام الأحداث الآنية، وطالما أنه لا توجد تغييرات كبيرة في المشهد في سوريا، فلا يمكن أن نتوقع من الإعلام التغطية المستمرة.
سياسياً وعسكرياً، لا، روسيا لم تنشغل بأوكرانيا وتنسى سوريا لأن كليهما مهم جداً لموسكو. لكن شاءت روسيا أم أبت، فإنها تأثرت في سوريا نتيجة انشغالها في أوكرانيا. لهذا نراها تلعب على المسارين، تعرقل مسار التطورات في سوريا لتفتحه في أوكرانيا والعكس صحيح. كما اضطرت روسيا لسحب عدد من قواتها من سوريا في تطور استفادت منه إيران بتعزيز نفوذها داخل سوريا. إضافة إلى ذلك فإن نظام الأسد حالياً يعاني من تردي الأوضاع الاقتصادية من انخفاض قيمة الليرة وارتفاع قياسي في معدلات التضخم والبطالة. وبالتالي فإن روسيا تحاول الحفاظ على حالة الاستقرار الهش في سوريا. وهنا لن تتوقف روسيا عن دعم النظام وستسعى بكل إصرار لإعادة العلاقات بين أنظمة المنطقة ونظام الأسد، وخصوصاً بين تركيا ونظام الأسد، وهو أمر ما زال غير محقق لأسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا. طبعاً، هنا لا ننفي أبداً تأثر سوريا بمحاولة اجتياح روسيا لأوكرانيا، فروسيا مضطرة للتعامل مع حقائق مختلفة على الأرض ومنها تركيا التي نجحت حتى الآن في خلق توازن ومكانة في الملفين السوري والأوكراني، على عكس عدة دول أظهرت مواقف واضحة إما مع أو ضد روسيا في الحرب في أوكرانيا. أيضاً محاولات التطبيع بين أنظمة المنطقة ونظام الأسد يواجه مقاومة أميركية.
نهاية، روسيا لن تغادر سوريا إلا مجبرة. وما زال من المبكر جداً التنبؤ بما يمكن أن يحدث بعد عام من الآن في سوريا، لكن من المؤكد أن السوريين هم أصحاب القرار في النهاية، فمهما كان التدخل الدولي قوياً، ما زال هناك مساحة واسعة للشعب ليقول كلمته.