بوتين بين دعم الفلسطينيين وقتل السوريين

2024.06.12 | 06:17 دمشق

بوتين
+A
حجم الخط
-A

لم تتوقف روسيا عن دعم غزة منذ أن بدأت أحداث حملة اجتياح الجيش الإسرائيلي لها في 7 أكتوبر 2023، وفي آخر تصريح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال إن ما يحدث في غزة هو ليس حرباً بل إبادة شاملة ضد المدنيين، حتى إنه يحافظ على قنوات التواصل المتينة مع حماس.

أمام هذا الموقف الواضح والمتعاطف جداً للرئيس الروسي مع أخواتنا وإخواننا الفلسطينيين، يقف السوريون وعلى وجوههم الحيرة البالغة تجاه موقف الرئيس الروسي هذا وكأنه كان حمامة سلام منذ أن دخلت قواته سوريا في العام 2015.

ويتساءل السوريون الذين عانوا الأمرين من القصف الروسي فوق رؤوسهم، هل بوتين مصاب بانفصام في الشخصية؟ هل فقد الذاكرة ونسي ما فعله من إبادة بحق السوريين دون تمييز؟ لماذا يدعم بوتين الفلسطينيين من جهة ويقتل السوريين من جهة أخرى؟ هل حقق بوتين نجاحاً باهراً في محادثات أستانا بين الأطراف السورية والإقليمية حتى يعرض خدماته في الوساطة بين حماس و"إسرائيل"؟

البعد التاريخي

قد يبدو للوهلة الأولى أن بوتين فعلاً قلق على حياة الفلسطينيين ويرغب بحمايتهم، إلى جانب رغبته باتخاذ موقف معارض لأميركا الموافقة على قتل الفلسطينيين، لكن هناك بعداً تاريخياً للمسألة لا علاقة له بحقوق الفلسطينيين وتعرضهم للإبادة أو بأي تنافس دولي في المنطقة، فعلى طول تاريخ روسيا كانت علاقتها مع اليهود معقدة وفي أغلبها سلبية وفيها ضوابط عديدة، فقيصر روسيا الأول أمير موسكو العظيم المعروف باسم إيفان الرهيب منع اليهود من دخول روسيا بعد طردهم من العديد من الدول الأوروبية في القرن الرابع عشر، وكانت الطريقة الوحيدة لدخول روسيا وقتها هو التحول للمسيحية. لكن لاحقاً جاء الإمبراطور بطرس الأول وجعل اليهود مقربين منه ومنحهم مناصب حكومية، بعدها جاءت الإمبراطورة كاثرين الأولى وطردت اليهود من روسيا بحجة أنهم أعداء للمسيح. لكن في نهاية القرن الثامن عشر سُمح لليهود أصحاب الحرف بالعيش والتجارة في روسيا، إلا أن طبيعة اليهود وقتها المتدينين والمنغلقين على أنفسهم جعلت بينهم وبين الروس حاجزاً كبيراً.

ومع الوقت ازدادت أعداد اليهود في روسيا فتم تخصيص أماكن محددة يعيشون فيها، ولم يتمتعوا بكل الحقوق التي يتمتع بها المواطن الروسي المسيحي. السبب الأساسي في هذه المواقف الروسية هذه تجاه اليهود هو ديني، فالمسيحية الأرثوذكسية – على عكس البروتستانية التي تقيم مذهبها على النبوءة التوراتية في كثير من المعتقدات – تؤمن بأن اليهود مذنبون بموت المسيح، وأن اليهود معاقبون بسبب ذلك، كما أن فلسطين بنظر الأرثوذكس في روسيا هي أرض مقدسة، وبالتالي ما تقوم به "إسرائيل" الآن بدعم من الولايات المتحدة الأميركية هي حملة شيطانية تسببت بدمار كنائس أرثوذكسية في غزة.
وأحدث انعطاف في العلاقات الروسية الإسرائيلية حصل مع بدء اجتياح روسيا للأراضي الأوكرانية في فبراير 2022، فالرئيس الأوكراني زيلينسكي هو يهودي أولاً وثانياً هو منحاز للغرب بشكل كامل، حتى إن الكريملين في روسيا وصف زيلينسكي بأنه "نازي جديد"، وهو وصف قالت عنه الإدارة الأميركية أنه معاد للسامية.

على طول تاريخ روسيا كانت علاقتها مع اليهود معقدة وفي أغلبها سلبية وفيها ضوابط عديدة.

البيت الداخلي

إلى جانب الخلاف الرئيسي بين المسيحية الأرثوذكسية الروسية وبين اليهودية، تأتي قضية المسلمين داخل روسيا. حيث يشكل المسلمون ثاني أكبر مجموعة دينية في روسيا بعد المسيحية الأرثوذكسية، أي حوالي 7.3 ملايين مواطن (5%) من الروس، وسبق لروسيا أن خاضت أكبر عملية عسكرية من جهة التكلفة بعد الحرب العالمية الثانية في حربها على الشيشان المسلمة التي حاولت الانفصال وإقامة دولة مستقلة مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ولا ترغب روسيا اليوم في إثارة مشاعر المسلمين على أراضيها ودفعهم للتظاهر بكافة الأشكال عبر دعمها لمحاولات "إسرائيل" إبادة الفلسطينيين في غزة. ووصل هذا الحرص إلى مستوى أن تطالب روسيا "إسرائيل" بوقف ما كانت هي نفسها تمارسه ضد الشيشان المسلمين.

يشكل المسلمون ثاني أكبر مجموعة دينية في روسيا بعد المسيحية الأرثوذكسية، أي حوالي 7.3 ملايين مواطن (5%) من الروس.

ماذا بالنسبة لسوريا؟

أظهرت روسيا وجهها الحقيقي في سوريا، فلا توجد أسباب تاريخية أو دينية أو عقائدية لما فعلته وما زالت تفعله تجاه السوريين. في نهاية عام 2023 وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل نحو 7 آلاف مدني على يد القوات الروسية منذ بدء تدخلها العسكري لدعم نظام بشار الأسد في سوريا في 30 سبتمبر أيلول 2015، كما ارتكبت روسيا ما لا يقل عن 360 مجزرة إلى جانب 1246 اعتداء على مراكز حيوية مدنية من مدارس ومنشآت طبية وأسواق.

روسيا تدخلت في سوريا للحفاظ على مصالحها الإقليمية في المنطقة وتحقيق مكاسب أكثر، وعدم السماح لأميركا وإيران بالتوسع هناك، والحفاظ على نظام الأسد الذي تربطه معه علاقات طويلة تحقق لروسيا من خلالها مصالح عديدة أهمها الوصول لمياه البحر الأبيض.

كما أن سوريا هي بيئة مناسبة لجذب الفئة الجهادية التي تعيش في روسيا، مما يساعد على تخفيف أعدادهم وحتى القضاء عليهم ومنع أي تهديد قد يشكلونه في المستقبل على روسيا.
وفي النهاية من الطبيعي أن تبني كل دولة سياساتها الخارجية حسب مصالحها المتعلقة بوجودها واستمرارها وقوتها، لكن عندما يتعلق الأمر باستخدام كل آلات القتل للقضاء على إرادة شعب من الشعوب من أجل مصالح خاصة فهذا أمر مرفوض، وبوتين والكرملين لن يتمكنوا من تنظيف أيديهم من دماء السوريين عن طريق دعمهم لنضال الشعب الفلسطيني، فلا شيء يحدث "من أجل سواد عيوننا".