تُطاردك لعنة المواطن السوري أينما حللت تسعى جاهدا للتخلص منها، تهرول سعيا للحصول على جنسية أخرى، تتصوّر أن المستقبل سيكون أفضل، وستمنح عائلتك شرف الخلاص الأبدي. بعد الآن لن يشتمك أحد لأنك سوري ولن تخشى التجوال في كل الشوارع العربية والعالمية، ستجوب العالم بأسره باحثا عن فرصك التي تستحقها والتي طالما خسرتها لأنك سوري!
ستقولُ ما المانع من خسارة عشر سنوات في أوروبا متخبطاً محبطاً وهائما على وجهك، فبعد أن تحصل على جواز السفر الأوروبي يمكنك أن تختار وطناً آخر، فأنت مرحّب بك ولك حرية التنقل وبداخلك طاقات جمة كُبحت لعلة "سوريتك".
أفكار كثيرة يعبّر عنها سوريون في أوروبا تتلخّص في أن كثيرا هدفهم بعد نيل الجنسية البدء من جديد في مكان آخر، لكن هذا ليس من السهل بمكان تحقيقه فهو حلم آخر يُقلقهم بعد حصولهم على الجنسية.
وفي حين أن العديد من اللاجئين يتطلّعون إلى الحصول على جنسية أوروبية كخطوة نحو تحقيق الاستقرار وربما العودة فيما بعد إلى بلدان أكثر قربا ثقافيا، إلا أن الواقع يكشف عن تحديات جمة تعقّد هذه الأمنية. ولعل السنوات التي يقضيها اللاجئون في سعيهم للاندماج داخل المجتمعات الأوروبية تغيّر من مجريات حياتهم بشكل جذري، وتشكّل لهم ولأبنائهم بيئة جديدة قد تصعب معها فكرة العودة أو الانتقال إلى بلد آخر، وفيما يلي أبرز هذه التحديات.
يواجه اللاجئون تغيرات في مهنهم ومهاراتهم العملية؛ فكثير منهم يعملون في مجالات قد لا تكون مطلوبة أو مرغوبة في العالم العربي بالقدر الذي هي عليه في أوروبا. كذلك، يستغرق تعلم اللغة والاندماج الثقافي وقتا طويلا يؤدي إلى استنزاف طاقة اللاجئين وتركيزهم، مما يجعل العودة إلى سوق العمل في بلدان أخرى تحديا كبيرا.
تربية الأبناء في بيئة أوروبية تجعل التكيف مع البيئات التي قد تكون أكثر تقييدا أو مختلفة عن المناخ الليبرالي الذي نشؤوا فيه أمرا مربكا للغاية. الأطفال الذين ينشؤون في المجتمعات الأوروبية يتبنّون أساليب حياة وتعليم وتوجهات فكرية قد تصطدم بالقيم والممارسات في عالمنا وتشكّل حاجزا يحول دون قدرة الأبناء على التماهي مع المناخ الجديد.
الجوانب الاجتماعية والنفسية للهجرة ثانية إلى بلد ثالث تحمل في طياتها تعقيدات عميقة. الشعور بالانتماء والهوية الذي بدأ يتشكل في أوروبا قد يعاني من الاضطراب والتشتت عند محاولة التأقلم مع بيئة جديدة مرة أخرى، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى مشكلات نفسية واجتماعية للفرد وأسرته.
بالإضافة إلى التحديات العديدة التي يواجهها اللاجئون السوريون عند التفكير في الهجرة من البلدان الأوروبية بعد نيلهم الجنسية، هناك أيضا الأعباء القانونية التي تفرضها الدول الأوروبية على مواطنيها، حتى عندما يقيمون خارج حدودها. هذه القوانين يمكن أن تشمل الضرائب على الدخل العالمي، الإبلاغ عن الحسابات المصرفية في الخارج، والتزامات أخرى قد تكون معقدة ومكلفة للأفراد الذين يختارون العيش خارج أوروبا.
على سبيل المثال، بعض الدول الأوروبية تتبع نظام الضرائب على الدخل العالمي، مما يعني أن مواطنيها مطالبون بدفع ضرائب في بلدهم الأصلي/ أي بلد يقيمون فيه على كل دخل يكتسبونه، بغض النظر عن مصدره. هذا يمكن أن يخلق عبئا ماليا كبيرا على اللاجئين الذين يعتقدون أن الانتقال إلى بلد أقل تطلبا في الضرائب قد يوفر لهم راحة اقتصادية.
كذلك، تفرض بعض الدول الأوروبية قوانين صارمة تتعلق بالإبلاغ عن الأصول والحسابات المالية في الخارج. الامتثال لهذه القوانين يتطلب مستوى عالياً من الدقة والشفافية، ويمكن أن يكون معقدا لأولئك الذين ليست لديهم خبرة في الشؤون المالية والقانونية.
لذا، عند التفكير في الانتقال إلى دولة أخرى، يجب على اللاجئين السوريين المواطنين الجدد في أوروبا أن يأخذوا في اعتبارهم هذه القيود والالتزامات القانونية التي تمتد إلى ما وراء الحدود الجغرافية للدولة المانحة للجنسية. يمكن أن تكون هذه الالتزامات عاملا حاسما يحدّ من الحرية المتوقعة في اختيار العيش في بلد آخر وقد تؤثر بشكل كبير على قرارات الهجرة والاستقرار على المدى الطويل.
أما الذين قرروا البقاء في أوروبا فعليهم إدراك حجم الفاتورة التي سدّدوها مقابل الأمان والاستقرار، تلك الفاتورة لا تقتصر على النواحي المالية والاقتصادية فحسب، بل تمتد لتشمل الجوانب النفسية، الثقافية، والاجتماعية. اللاجئون الذين يختارون البقاء يواجهون تحديات يومية في التوفيق بين هوياتهم الثقافية الأصلية والمطالب الجديدة للمجتمعات التي استقروا فيها.
الاندماج في المجتمع الأوروبي يتطلب من اللاجئين ليس فقط تعلم اللغة والتأقلم مع العادات والقوانين، ولكن أيضا مواجهة تحديات الاعتراف بمؤهلاتهم العلمية والعملية، وكذلك التغلب على العوائق التي قد تواجههم في سوق العمل بسبب التحيزات والمفاهيم المسبقة. العديد من اللاجئين يجدون أنفسهم مجبرين على قبول وظائف لا تتناسب مع خبراتهم ومؤهلاتهم السابقة، مما يؤدي إلى شعور بالإحباط وعدم تقدير الذات.
إذا فإن تلك الرحلة التي تبدأ بالحصول على جنسية جديدة لا تنتهي بمجرد تسلّم الوثيقة؛ بل تتطلب الانغماس في فهم ديناميكيات المجتمع الجديد، ومواجهة تحديات الاندماج التي قد تظهر بأشكال عديدة. اللغة، العادات، القيم، كلها جوانب تحتاج إلى فهم وممارسة لتحقيق التوافق الثقافي والاجتماعي.
إلى جانب ذلك، يعاني اللاجئون أيضا من تحديات نفسية ناتجة عن الحنين إلى الوطن والقلق بشأن الأمان العاطفي لهم ولأسرهم. العيش في ثقافة مختلفة يمكن أن يسبب الشعور بالعزلة والاغتراب، خاصة عندما يكون التفاعل مع المجتمع المحلي محدودا أو سطحيا. يجب على اللاجئين أن يجدوا طرقا لبناء شبكات دعم جديدة والتعامل مع مشاعر الوحدة وفقدان الجماعة.
وفقاً لتقرير نشره المجلس النرويجي للاجئين (NRC) والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، يعاني ما يقدر بنحو 30% إلى 40% من اللاجئين من اضطرابات نفسية مثل اضطراب الضغط النفسي ما بعد الصدمة (PTSD) والاكتئاب. هذه الاحصائيات تعكس التأثيرات النفسية لتجارب الهجرة القسرية.
علاوة على ذلك، أظهرت دراسة أجراها المركز الأوروبي لمراقبة الأمراض (ECDC) أظهرت أن اللاجئين يواجهون معدلات أعلى بكثير من الاضطرابات النفسية مقارنةً بالسكان الأصليين في الدول المضيفة، مما يشير إلى تأثير كبير للهجرة والتهجير على الصحة النفسية وتشمل هذه النسب الحاصلين على الجنسيات أيضا.