تتجدد كل موسم صيف مأساة السوريين الذين يجدون أنفسهم مضطرين لمواجهة أخطار الهجرة في رحلات يائسة نحو الأمان. يتخلل هذه الرحلات الطويلة والمحفوفة بالمخاطر لحظات مرعبة تظهر في مواجهة البحر أو الغابات والصحاري المقفرة. تتكرر قصص الفراق والخوف، والموت، والغرق، واليأس. يستقبل العالم السوريين بأبواب نصف مغلقة، وسياسات هجرة تتعقد كل عام.
ومع ذلك، يكاد لا يمر أسبوع حتى نسمع عن غرق قارب متجه إلى قبرص أو مقتل شاب في غابات بلغاريا، أو غرق قارب مطاطي قبالة إزمير أو مرمريس. بات السوريون أدرى بشعاب المنطقة من أهلها ويعرفون كل منفذ ليس عليه رقيب. تفسر بيانات المفوضية الأوروبية لماذا يموت كل هؤلاء على الطريق إلى القارة، ويذكر آخر تقرير صادر عنها أن نحو 181 ألف طلب لجوء تقدم به سوريون في دول الاتحاد الأوروبي خلال العام 2023، مما يمثل زيادة بنسبة 38 بالمئة عن عام 2022، وهو أعلى مستوى منذ عام 2016. ولم تصدر أرقام شاملة عن العام 2024، لكن حوادث الوفاة التي تظهر بين الحين والآخر تشي بأرقام مرتفعة أيضًا. ولا يُسمع بين السوريين في دول الجوار أو في الداخل سوى حديث أو خطة لهروب إلى الأمام والابتعاد أكثر عن حدود البلاد، فكلما كانت المسافة شاسعة بين السوري وسوريا كلما كان مستوى القلق والخوف أقل.
لم يعد يهتم السوريون بالحل السياسي ولا المفاوضات ولا أي تقدم أو تراجع فيها، بالنسبة لهم الحل هو الابتعاد عن سوريا، وليس الخروج منها فقط، فإذا كانت الحدود قريبة فالخطر قريب أيضًا. ومع أن الأيام الأخيرة كانت مليئة بالتطورات السياسية، منها مقتل مستشارة رئيس النظام السوري بشار الأسد لونا الشبل وما فتحه من سيناريوهات للصراع داخل القصر الرئاسي، إلا أن الخبر لم يعنِ السوريين سوى بعض الفضول وكأنهم بصدد معرفة تفاصيل درامية لمسلسل يُعرض على شاشة التلفاز. حتى دعوات التطبيع بين تركيا والنظام السوري لم يناقشها السوريون إلا في إطار كيف سيصل تأثيرها إلى عتبة منازلهم. فالسوريون في الداخل يرونها فرصة لفتح معابر جديدة داخل سوريا قد تختصر عليهم جزءًا من تكلفة الهروب، سيما أن الخروج من مناطق النظام إلى الشمال السوري أصبح يكلّف الشخص نحو ألفي دولار. والسوريون في تركيا اكتنفهم القلق على مصير بطاقات إقامتهم في البلاد ومتى ستزداد وتيرة الضغط عليهم، وحتى حوادث العنصرية والعنف لا يكترثون لخطورتها النفسية والجسدية عليهم وإنما هل ستفضي إلى ترحيلهم؟.
يشكل فوز اليسار في بريطانيا وفرنسا أهمية للسوريين أكثر من انتخابات "مجلس الشعب" في سوريا. ويهتم السوريون بأسعار جوازات السفر في بلادهم وأنواع الإقامات في دول العالم أكثر من القصف الإسرائيلي على دمشق.
يفهم السوريون الآن تفاصيل السياسة الداخلية التركية وتقسيمات الأحزاب، وينطبق الفهم أيضا على أوروبا وأحزابها ونتائج انتخاباتها، ويعرفون موقف كل فصيل سياسي من الهجرة. حتى أنهم يخشون من عودة ترامب وتأثيره على الهجرة في أميركا وانعكاسه على العالم أجمع، ولا يكترثون لرأي صناع السياسة بالقضية السورية وإلى أيّ صف يقفون، المهم موقفهم من الهجرة.
يشكل فوز اليسار في بريطانيا وفرنسا أهمية للسوريين أكثر من انتخابات "مجلس الشعب" في سوريا ومرشحيها وبرامجهم. يهتم السوريون ببورصة أسعار جوازات السفر في بلادهم وأنواع الإقامات في دول العالم أكثر من القصف الإسرائيلي على دمشق، ويلقى خبر تعديل شروط الإقامة في دولة خليجية أو أوروبية أو حتى في كردستان العراق تفاعلًا أكبر بمئات المرات من خطاب بشار الأسد. وتعمّم هذه المعادلة على السوريين في الداخل والخارج.
في عام 2013، طرح الجنرال مارتن ديمبسي، رئيس هيئة الأركان المشتركة في ذلك الوقت، فكرة احتواء الصراع السوري داخل حدوده الجغرافية خلال جلسة استماع أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي، وبعد أكثر من عشر سنوات، أصبح اقتراح ديمبسي حقيقة. بنت الأردن جدارًا أمنيًا في 2015 لمنع تسلل عناصر "تنظيم الدولة" وتهريب الأسلحة، وقررت تركيا بناء جدار فصل على حدودها مع سوريا في 2013، استكملته في 2018 بطول 911 كيلومترًا مع أبراج مراقبة وتقنيات أمن حدود ذكية بتمويل من الاتحاد الأوروبي. وبعد استعادة العراق السيطرة على الحدود في 2018، بدأ ببناء جدار حديدي شائك مزود بكاميرات حرارية وأنظمة مراقبة حديثة. يتحيّن السوريون الفرصة للقفز من فوق هذه الجدران، ولو تمت إزالتها لما بقي في سوريا أحد سوى القوات الأجنبية التي تحتلها.