تتدثر إيران في طريقها الدموي لتكون لها الكلمة العليا في المنطقة، بعشرات إن لم يكن أكثر، من الميليشيات والجيوش المتفلتة من فكرة الدولة، التابعة لعقيدة لها سيّد حيّ ما يزال كلامه شيئا يقترب من الوحي.
العقيدة الإيرانية، الظاهرة على شكلٍ شيعي، تقوم على مبدأ الحروب الطويلة المستمرة التي لا راحة فيها أو انطفاء، فكلُّ همّها تدميرٌ أكثر واستقرارٌ أقلّ، ساحات لعب أوسع بعيدةٌ عن الديار التي يجب أن تنموَ وتَقوى وهي محميَّة الأسوار، في منطقة لا منطقَ يحكمُها إلا القوة.
يقول علي أكبر صالحي، عقلُ برنامج إيران النووي وممثلُ طاولة المفاوضات ووزير خارجيتها بالوكالة: إن "الحروب التي تقودها الدول هي خاسرة"، فلا بد من فكرة "المقاومة" كمصطلح تجميلي لفكرة اللا دولة في كل المنطقة، لتغييب المُنافس مع لذةٍ انتقامية لعهودٍ مضت للأمة الفارسية التي تُمثلها اليوم وتحلم بأن تعود ذات يوم، وقد بدأت الرحلةُ من لبنان عام 1982، فالعراق فسوريا، وهي تدأب حتى يكتملَ الطوق مع وصل بحر العرب بالبحر الأسود.
تُقاتل اليوم إيران بضراوة، بأشباه الجيوش، بلا رتبٍ عسكرية ولا تنظيم، بأفكار ثورية اختارت إيران نشْرَها بأوامر دستورية تضمن تكرارَها بكل مكان لتكونَ إيران سيدة الكلمة، ومن يحكمها سيكون أميراً للمسلمين، بغالبيةٍ شيعية، عبر أدوات ناعمة وخشنة في آن معاً، فأنشأت حزبَ الله وضربَتْ فيه فرنسا والولايات المتحدة الأميركية عندما تمادَتا في دعم صدام حسين إبَّان الحرب الإيرانية - العراقية (1980 - 1988).
الحرب التي كشفت أهمية فكرةِ تغييب الجيوش وخلق الميليشياويّة، مع فشل الجيش الإيراني في بدايات حرب السنوات الثماني، فانطلق الحرس الثوري كتجمع عسكري ديني ومذهبي، لا يملك عقيدة وطنية أو جغرافية، فهو الشهيد ماتَ أم ما زال في طريقه نحو الهدف، وفتحتْ له إيران خزائنها وفضّلته على كل شيء حتى وزارة الدفاع، إذ تُظهِر أرقامُ الموازنة العسكرية الإيرانية الفائتة تقديمَ الحرس الثوري على المؤسسات العسكرية الأخرى في البلاد، وخصوصاً الجيش. إذ تُشكل حصة الحرس من إجمالي الموازنة العسكرية نحوَ 31 بالمئة، في حين لا تتجاوز حصة الجيش 11.5بالمئة.
تُشكل حصة الحرس من إجمالي الموازنة العسكرية نحوَ 31 بالمئة، في حين لا تتجاوز حصة الجيش 11.5بالمئة.
اختارت إيران مذهب الشيعية الاثني عشريَّة واعتنقته الدولة في عهد الصفويين في القرن السادس عشر ضمن عملية إحياءٍ للهُوية القومية الفارسية، وهو ما عمدت الثورة الإسلامية في إيران لنشره كعقيدةٍ تتيح للمرجعية الدينية نفوذا يتجاوز كل الحدود، لكن السلطة هذه متعلقة بورع ديني، لا يشحذه إلا المظلومية الدائمة التي لحقت بآل البيت، وفكرة الأقلية مقابل بقية المذاهب التي تحاصرهم من كل صوب، ويروجون لمقولة "أنهم جزء من أمة إسلامية، لا تحويهم طائفة أو مذهب وليس لهم حدود، حدودهم القرآن الكريم"، وهو ما يقوله الحوثيون في حديثهم عن حراكهم.
التشييع هو أهمّ أدوات القوة الناعمة، ساندته حراكات دبلوماسية، وفتح آفاقاً تجارية، وشقَّ قنوات كحوار الحضارات الذي أطلقته إيران في عهد محمد خاتمي الرئيس الإيراني (1997-2005)، لمسح رواسب الحروب، عبر توحيد العدو إسرائيل أولا من بلاد الرافدين مع توريط صدام حسين العراق باحتلال الكويت، ونزع بغداد من جسد العرب، ومن ثم احتلالها الذي أعاد تدفق سيل إيران بوقت أسرع مما هو مخطط، فدرّبت، عقليا وجسديا، قائمةً قد لا تُحصى من التشكيلات ونوّعت فيها وجرّبت كل المسارات، حتى توصلت إلى صيغة وتجربة قابلة للتنفيذ والتطوير كلما أتيحت الفرصة، وهي كثيرة مع انطلاق الحراك العربي في ربيعه الأول هذا القرن، إذ تغلغلتْ إيران سريعا في سوريا وقد يكون منذ اللحظات الأولى، فأمدَّت بالمعدات والخبراء والعناصر، إيرانييين وأضافت إلى تجربتها فكرة التلاميذ الذين توالَوا تباعا من لبنان ومن ثم العراق، أما سوريا فحظِيتْ بلفتة إضافية بتدريب عناصر غريبين (من أفغانستان وباكستان) عن المنطقة وإدخالهم في أتون حربها، بلا أي هدف إلا ما يقوله المَراجع الذين يحققون أهداف إيران الفارسية ذات الشكل الشيعي.
تمادي النجاح في لبنان والعراق وسوريا أنضج تجربة ثانية في اليمن، فحوّلت طهران خلافها العقَدي مع الحوثي إلى رابط بقدرة براغماتية فريدة.
يبقى شعار "الموت لأميركا والموت لإسرائيل"، شيِّقا ويحمل قصّته الخاصة، فهو حقد ورَّثه ثوار إيران، ضد من وقف في وجه ثورتهم دعما للشاه ضد الشعب، وها هم اليوم يلعبون دورَ مَنْ يودّون إذاقتهم الموت، فهي اعتادت قلبَ القواعد.
من جيوش إلى ميليشيات، من دول إلى سلطاتِ أمرٍ واقع، تقلب إيران إلزامية سيرورة الحياة، وتُعيد العقارب إلى الخلف، بعد أن طوَت البشرية مرحلة اللا دولة، وأنتجتْ وأنضجتْ تجاربها.