من احتكار الدولة إلى تأميم العنف، نقطة تحول تفرغ الدولة من مضمونها ووجودها، حيث باتت شريعة صاحب الأرض والغريب المستضعف هي المسيطر، والحل المنتهج كسياسة واضحة كاملة الأركان ومتفلتة من كل نوع من أنواع الردع سواء أكان إنسانيا أم دينيا وحتى وفقا للقوانين الوضعية التي صاغها وشكل مفاهميها المهاجمون أنفسهم.
ما بال النسوة اللاتي رُمين من الحافلة في أزمير؟، ما بال الأطفال وما بال تلك المرأة التي بكت على عربة ابنها الرضيع، التي وجدت فيه سندها بدل أن تكون له الحضن؟، ما بال العشرات وهم يكررون صيحات الفرح بعد نصر مؤزر وغير متوقع على نسوة كُنَّ بنظرهم قاتلات مدمرات ساحقات للحضارة والبنيان، جالبات للعنف والحقد والكره من اللاشيء؟، ما بال السلطات التي تقف على أعتاب البيوت بانتظار أي خطأ لتحوله إلى عدو دولة لا مكان فيها لك بعد تلك الغلطة التي قد تكون السير على رصيف إلى جانب أحد أصحاب هذه الأرض؟.
وما بالنا نحن حتى نفزع ونرتعد ليس خوفا من موقف مشابه، وإنما فقدا للمروءة والإنسانية والدخول في أتون الكره الخانق العاجز المغلّق للطرق بوجهنا إلا باتجاه بلادنا الممزقة.
مجبرون على تكرار السردية الدموية ذاتها، وحالة الفرار هي المسيطرة على حيواتنا المنتشرة في العديد من بقاع الأرض، بما فيها الأناضول التي باتت اليوم بيئة لافظة بطريقة متصاعدة متنقلة من عالم الافتراض وبعض الحركات الفردية التي تكلف أرواحا أحياناً، إلى تهديد حقيقي ومباشر وجمعي لأي مظهر أو وجود محسوس أو غير مرئي لكل ما هو سوري بداية، ثم إلى كل من لا ينتمي إلى أعراقهم، وكأن حزب العدالة والترقي قد بات طريقه ممهدا للعودة.
فكرة الصندوق الصيني آتت أؤكلها مع السلطات التركية، فلا حديث يدور اليوم إلا عن اللاجئين ولا مشكلة اليوم إلا مع اللاجئين ولا حل إلا من خلال سحق اللاجئين وترعيبهم والتضييق عليهم، بل أصبح قذفهم عبر الحدود غير كاف لتفريغ الكم المهول من الحنق، فاللاجئون هم من ثقب بالون الاقتصاد وحدّ من فوائد الطفرات العسكرية والسياسية، وخنق طموحات إعادة تصدر المشهد العالمي.
تسعون مليونا أو يقلون، باتوا اليوم في عوز كامل بسبب حفنة من الملايين العاملين المشاركين بتلك الطفرات والعاملين عليها، تسعون مليونا أو يقلون، باتوا متفقين بشكل شبه جمعي على المشكلة والحل وطريقته، فهنا العنف والقانون وفرضه ليس حكرا على الدولة. هذه أمور باتت خارج التخصيص نحو التأميم، فكل مواطن له الحق في الاقتصاص بالطريقة التي يراها تناسبه وتعبر عن غضبه من كل شيء، من ارتفاع سعر البصل أو المحروقات أو تراجع العملة، فالمغضبات كثيرة والمسبب واحد.
لا يعادى القانون، ولا يعلق على الجدران، ولا هو عصا يهش بها وقت الرغبة بتوجيه قطيع هنا أو هناك، بل هو أساس الأمم في مسيرتها البشرية، وإلا انقلبت إلى غابة لا أسد يحكم فيها ولا جرذ يختبئ بالجحر، فالكل مشتركون في القتال على كل شيء وأي شيء.
فما بال النسوة في حافلة أزمير؟.. لا بال لهنّ. فقد مضت القضية بانتظار أخرى، التي ستتلوها أخرى وأخرى وأخرى طالما أن القانون يطبق بأكثر من تفاصيله على المستضعف ويكون تاجا وداعما ومساندا للمعتدي.