التوتر الذي حدث في حي ألتينداغ بالعاصمة التركية أنقرة الأسبوع الماضي، على خلفية مقتل تركي على يد شاب سوري، أعاد إلى الواجهة مجدداً الحديث حول واقع ومستقبل السوريين المقيمين في تركيا، وعما إذا لا يزال بالإمكان معالجة الواقع المعقد الذي يعيشونه.
والحق فقد كانت ساعات عصيبة على الجميع قبل أن يتدخل غالبية المسؤولين السياسيين وقادة الرأي ومنظمات المجتمع المدني في تركيا من أجل احتواء الحدث، بمواجهة عدد محدود من السياسيين والأحزاب الذين سعوا للاستفادة منه وتوظيفه في المنافسة السياسية كما هو معلوم.
كانت لحظات عصيبة على السوريين في هذا الحي بالدرجة الأولى، وكذلك على المقيمين منهم في أنقرة، إلا أنه وبلا شك جعل كل السوريين في كل مكان بتركيا يشعرون بالقلق، أو على الأدق، بنوبة قلق جديدة، فهذا الشعور يكاد يلازم السوريين في هذا البلد منذ سنوات حتى تحول إلى مرض مزمن يرافقهم طيلة الوقت، لكنه يتفجر كنوبة عند كل مشكلة يكون أحد أطرافها سورياً!
ورغم أن هذا الحدث يكاد يكون متكرراً باستمرار، وهو طبيعي بالنهاية، إذ لا يتصور أن أربعة ملايين شخص يمكن أن تمر كل الأيام بدون وقوع مشكلات معهم، مهما حاولوا تجنبها وقدموا من تنازلات في سبيل ذلك، فإنه حتى اليوم وبعد كل هذه السنوات، لم تستطع المؤسسات التي تمثل السوريين أن تجد أي مقاربات أو حلول تخفف من حدة هذه الأزمة إن لم نقل حلها.
والحق فإنه طالما بقيت آليات التعاطي من قبل قادة العمل السوري في تركيا على هذا النحو فإن أي حل لن يكون متاحاً، اللهم إلا ما يعول عليه جل هؤلاء القادة، إن لم نقل كلهم، وهو عامل الوقت والزمن، بينما تتوفر العديد من الخيارات التي لم يتم اللجوء إليها، بل وربما لم يتم التفكير بها أصلاً!
كانت لحظات عصيبة على السوريين في هذا الحي بالدرجة الأولى، وكذلك على المقيمين منهم في أنقرة، إلا أنه وبلا شك جعل كل السوريين في كل مكان بتركيا يشعرون بالقلق
لقد حصرت مؤسسات المعارضة السياسية، كما يعلم الجميع، علاقاتها وصلاتها بالحكومة وبحزب العدالة والتنمية تحديداً، وأهملت، لأسباب مختلفة، التواصل والانفتاح على بقية القوى السياسية التركية، إلى درجة أن بعض الأحزاب الحليفة للعدالة والتنمية في الحكومة تتخذ مواقف متشددة حيال الوجود السوري في تركيا.
وإذا كان هذا حال القوى القريبة والشريكة للحزب الحاكم فكيف يمكن تخيل أن تطور الأحزاب المعارضة خطابها وموقفها إيجابياً من هذه القضية، خاصة مع تنامي الشعور لدى هذه الأحزاب وجماهيرها بأن السوري في تركيا لا يعتبر نفسه ضيفاً على الشعب التركي وإنما ضيف الحكومة والحزب الحاكم، وأنه يمكن للحزب أن يستغلهم وأنهم لن يمانعوا!
وبالطبع فإن هذا التصور المغرق الخاطئ وغير الموضوعي هو واحد من تصورات عديدة مغلوطة باتت منتشرة بين كثير من الأتراك عن السوريين، لكن بكل أسف لم يتم العمل على تصحيحها بالطرق الفعالة، بل غالباً ما ترك الأمر لحملات وأنشطة نفذها شباب متطوعون ومنظمات عمل مدني صغيرة ومستقلون، من السوريين والأتراك، وكان واضحاً أنه لا يمكن أن ينتج عنها الكثير.
وعليه فقد كان من الواجب ولا يزال أن يتم فتح قنوات تواصل مع هذه القوى والأحزاب السياسية المتحالفة مع العدالة والتنمية، وكذلك المعارضة له، من قبل الائتلاف وبقية مؤسسات العمل السياسي والمدني السوري في تركيا، من أجل كسر هذه الحواجز التي تسببت بمشكلات كبيرة لمختلف الأطراف، بما فيها الحزب الحاكم نفسه، الذي بات ملف اللاجئين، وخاصة السوريين منهم في تركيا، ملفاً ضاغطاً جداً عليه، وقضية خاسرة بالنسبة له.
لذا وعلى عكس ما يتوقع القادة والمسؤولون في هذه المؤسسات السورية، بحكم الطبيعة التي اتسمت بها علاقاتهم التركية، فإن حزب العدالة والتنمية لن يمانع ولن يزعجه القيام بذلك، بل سيكون ممتناً على الأغلب في حال نجح السوريون بإقناع منافسيه بتبني خطاب معتدل، إن لم نقل متضامن مع اللاجئين ومع السوريين المقيمين على الأراضي التركية.
نعم إن كل خطاب الكراهية والعنصرية المنتشر ضد السوريين في تركيا هو خطاب عاطفي أنتجه سياسيون من أجل التوظيف السياسي، وهو خطاب يركز على التلاعب بمشاعر الجمهور لا عقله.. شعبوي وليس عقلانياً، لا يعتمد على الحقائق والأرقام بل على الاستثارة وتأجيج المشاعر، وإذا كنا متفقين أن المسؤولين عن ترويج هذا الخطاب وانتشاره هي أحزاب وقوى ووسائل إعلام محددة ومعروفة، وأنه في حال تخلت هذه القوى عن هذا الخطاب وتبنت خطاباً معاكساً فإن الأمور ستتغير للأفضل قطعاً، فإن السؤال البديهي يكون إذن: لماذا لا نتواصل معهم من أجل هذه القضية؟
نعم إن كل خطاب الكراهية والعنصرية المنتشر ضد السوريين في تركيا هو خطاب عاطفي أنتجه سياسيون من أجل التوظيف السياسي
لا يوجد سوى سبب واحد يمكن الاتفاق عليه حتى الآن، وهو خشية قادة العمل السياسي السوري من إغضاب حزب العدالة والتنمية، لكن بعد أن أوضحنا أن من مصلحة الحزب القيام بهذه الخطوة، فإن كل الأسباب والدواعي الأخرى الثانوية يصبح من السهل التعامل معها.
ولعل في مقدمة هذه الأسباب تصور عدم استعداد أحزاب المعارضة التركية للاستماع للسوريين أو التعامل معهم، بينما تؤكد بعض المعطيات وتجارب التواصل القليلة، على محدوديتها حتى الآن، أن النتائج ممكنة، إلا أنه ومع ذلك يمكن الاعتماد على عوامل ضغط مساعدة من أجل تيسير وإنجاح هذه المهمة في حال أصرت هذه القوى على موقفها السلبي.
وأبرز هذه العوامل المساعدة هو إدخال الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اللذين يرفضان إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم قبل إنجاز عملية الانتقال السياسي وتوفير البيئة الآمنة، كوسيط وكضاغط أيضاً، خاصة أن معظم هذه الأحزاب التركية على علاقة جيدة معهما، أو على الأقل لا تحبذ الصدام مع واشنطن وبروكسل، وطالما أن أوروبا لا تريد عودة السوريين المقيمين في تركيا إلى بلادهم في هذه الظروف، ولا تقبل أن تفتح تركيا وغيرها الطرق أمامهم للتوجه إلى دول القارة، وطالما أنها الممول الرئيس لتكاليف الوجود السوري في تركيا، فإنه وبلا شك ستؤيد وتدعم وتساعد أي مسعى يمكن أن تقوم به مؤسسات المعارضة السورية من أجل التواصل مع الأحزاب والقوى السياسية التركية المعادية أو المعارضة للوجود السوري في بلادها والضغط عليها.
هذه ليست وصفة جاهزة لحل مشكلات السوريين في تركيا، بل هي جزء، لنقل إنه أساسي من العلاج الممكن، بينما تبقى أجزاء أخرى لا يمكن إهمالها، وهي منظمات العمل المجتمع المدني التركية، بما فيها النقابات والجمعيات الخيرية الإسلامية وتجمعات اليسار الديمقراطي الليبرالي التي لم تتمكن حتى اليوم من دخول عتبة البرلمان لكنها مؤثرة في صفوف الشباب والطلاب، وقد كان لهذه الجمعيات والمنظمات تأثير مهم في الدفاع عن السوريين والتظاهر ضد حملات التحريض التي تستهدفهم، وإطلاق حملات وهاشتاغات لدعمهم في كل مرة كانوا يواجهون فيها مواقف عصيبة، الأمر الذي يمكن القول معه إنه بالإمكان تحسين ظروف السوريين في هذا البلد، قانونياً واجتماعياً.