بين الغضب واللامبالاة استقبل المعارضون والثوار السوريون الإعلان عن عقد جولة جديدة من اجتماعات أستانا الشهر المقبل، وهما ردا فعل متوقعان بطبيعة الحال، نظراً إلى السمعة غير الطيبة التي يحظى بها هذا المسار.
الغضب واللامبالاة هما موقفان سلبيان في النهاية، ويصبحان أكثر منطقية مع إقرار فريق المبعوث الدولي إلى سوريا (بشكل غير مباشر) بفشل مفاوضات اللجنة الدستورية، لكن مع التمسك بهذا المسار أيضاً، وفي ظل غياب أي مسار سياسي آخر تتركز الأنظار على قضية المعابر المخصصة للمساعدات الإنسانية.
من المؤسف فعلاً أن تختصر القضية السورية اليوم بمسألة المساعدات الإنسانية التي يفترض ألا يختلف عليها اثنان، لكن مع العنت الروسي المستمر، والذي استغل طوال السنوات الماضية تراجع الاهتمام الدولي بشكل عام، والأميركي بشكل خاص، بالملف السوري، يصبح أمراً واقعاً هذا الاختزال اللاإنساني.
الولايات المتحدة تبدي اليوم اهتماماً أكبر بالملف السوري، إلى حد أن العنوان الذي يسيطر على الكثير من المواد الإعلامية هو: عودة أميركا إلى سوريا
وبغض النظر عما يمكن أن يحدث في اجتماع مجلس الأمن المخصص لمناقشة التمديد للمعابر غير الخاضعة لسيطرة النظام، كممرات للمساعدات الإنسانية الموجهة إلى مناطق سيطرة المعارضة، إلا أنه من الواضح أن الولايات المتحدة تبدي اليوم اهتماماً أكبر بالملف السوري، إلى حد أن العنوان الذي يسيطر على الكثير من المواد الإعلامية هو: عودة أميركا إلى سوريا.
فبعد خيبة الأمل التي خلّفها اللقاء الأخير للرئيسين فلاديمير بوتين وجو بايدن، عندما علم الجميع أن القضية السورية لم تكن جزءاً أساسياً من المحادثات بينهما، أعاد إعلان واشنطن الترتيب للقاء بين وزير خارجيتها أنطوني بلينكن مع نظرائه من أربع عشرة دولة، بينها دول المجموعة المصغرة حول سوريا السبع، التفاؤل حول نية الإدارة الأميركية إعادة هذه القضية إلى الواجهة من جديد.
الاجتماع المجدول على هامش مؤتمر دول التحالف ضد الإرهاب المقرر عقده في روما نهاية الأسبوع الأول من شهر تموز/يوليو المقبل، أي قبل أيام فقط من موعد اجتماع مجلس الأمن المخصص للمعابر الإنسانية، رأى فيه الكثيرون رسالة حزم موجهة إلى روسيا، خاصة أنها تأتي بالتزامن مع إعلان قادة دول الاتحاد الأوروبي عدم اهتمامهم بعقد لقاء مع روسيا.
من حيث المبدأ يعتبر ما سبق مؤشرات جيدة على استعادة الغرب الحزم بمواجهة الصلف الروسي الذي هيمن على المشهد طوال سنوات، ليس في سوريا فقط، بل أيضاً في ملفات أخرى شديدة الحساسية بالنسبة لأميركا وأوروبا، وفي مقدمتها قضية جزيرة القرم وليبيا، لكن من المجازفة أن نفرط كسوريين بالتفاؤل، أو بعبارة أدق، من المبكر ذلك.
فعلى الرغم من أهمية إبداء واشنطن اهتماماً أكبر بالشأن السوري، فإنه يجب الانتباه إلى حقيقة أن هذا الاهتمام هو جزء من استراتيجية أميركية تنظر اليوم إلى ملفات الشرق الأوسط كسلة واحدة، تطرح كلها في إطار التفاوض مع روسيا إلى جانب الملفات الأخرى، لكن أيضاً مع إيران في إطار مفاوضات الملف النووي، بحيث تصبح القضية السورية، بالنسبة للولايات المتحدة، مرتبطة بقضية اليمن ولبنان والعراق وصواريخ إيران الباليستية والتهديدات المتبادلة بين طهران وتل أبيب.
أمر إن تأكد، وهو ما يبدو عليه الحال بالفعل، سيعني أن عودة الاهتمام الأميركي بالشأن السوري سيكون من بوابة الانتباه إلى أهمية هذا الملف كورقة تفاوض وضغط أميركي وليس من منطلق مبدأي، ولذا فإن أي توافقات يمكن أن تتحقق بين واشنطن من جهة وموسكو وطهران من جهة أخرى سيعني بيع هذه الورقة.
قد يكون الاحتمال السابق سوداوياً، لكن المبالغة في الحذر أفضل بكثير من الاندفاع بدون حسابات، خاصة مع الحديث المتزايد أميركياً عن التخفيف من وجودها العسكري في منطقة الشرق الأوسط، ومن ضمنها الأراضي السورية بطبيعة الأمر، فيما يبدو أنه جزء من المفاوضات مع إيران، لكن مع ذلك يوجد العديد من النقاط الإيجابية فيه.
فنحن كمعارضين وثوار لم نكن نريد من أوروبا والولايات المتحدة وبقية الدول التي أعلنت دعمها للثورة السورية سوى أن تأخذ بعين الاعتبار ما لسوريا من أهمية كبيرة بالنسبة للدول الحليفة للنظام، والتي إن كانت قد قاتلت وما زالت تقاتل في بلادنا منذ سنوات، فإنها إنما تفعل ذلك من أجل مصالحها أولاً وليس فقط من أجل الأسد، ولذا فإن من مصالح دول (العالم الحر) الوقوف إلى جانب المناضلين من أجل الحرية والديمقراطية، ليس من أجل هذه المبادئ فقط، بل من أجل مصالحها أيضاً.
لقد ارتكب الغرب خطيئة كبرى بإهماله القضية السورية على هذا النحو الذي مكن النظامين الروسي والإيراني من الهيمنة عليه وإبقاء تركيا تحاول وحيدة إحداث التوازن معهما، ولذلك لا أعتقد أنه كان من السيئ استمرار المعارضة بالمشاركة في مسار اللجنة الدستورية، ليس رضى بما تمخض عنه هذا المسار من نتائج، بل لأنه لم يكن له أي نتائج حقيقية يمكن القول إنها أضرت بالثورة السورية.
الحديث عن أن هذا المسار منح النظام وحلفاءه الوقت، فإنه حديث يلغي حقيقة أن هذا الوقت كان متاحاً بكل الأحوال وفق ما تقدم من معطيات
لا شك أننا نتفهم التحفظات الكبيرة التي أثيرت حول هذا المسار، وأهمها أنها خلطت أوراق القرار الدولي 2254، القاضي بإحداث هيئة حكم انتقالي كخطوة أولى على طريق الحل السياسي، لكن بكل الأحوال ما كان لهذا القرار أن يعرف أي تقدم في السنوات الماضية بظل الانكفاء الغربي وعدم وجود أي ضغط على حلفاء النظام من أجل السير به، أما الحديث عن أن هذا المسار منح النظام وحلفاءه الوقت، فإنه حديث يلغي حقيقة أن هذا الوقت كان متاحاً بكل الأحوال وفق ما تقدم من معطيات.
وبالمقابل فإن تحدث المتحمسين لمفاوضات اللجنة الدستورية عن استمرار المعارضة بالمشاركة فيها رغم كل ما ألحق النظام بها، يعتبر مبالغة لا أساس لها، وسوى التأكيد على تمسك المعارضة بالحل السياسي وفضح حقيقة ازدراء النظام لهذا الحل لم يقدم لنا هذا المسار شيئاً، ولكن هل كان يحتاج التأكيد على ذلك إلى أكثر من ثلاث سنوات؟!
على أي حال نحن اليوم أمام مرحلة جديدة، أو هذا ما يبدو عليه الأمر، ولكنها مرحلة تتطلب من المعارضة أن تعيد تنظيم نفسها بشكل يتناسب وحجم التحديات المقبلة، وأن تضع حداً لحالة البؤس التي تعاني منها، وإلا فستكون جميع المحطات والمراحل سيئة بالنسبة لنا.