icon
التغطية الحية

لماذا يفشل مخرجو المسلسلات السورية فِي صناعة أفلام سينمائية؟

2024.07.14 | 16:58 دمشق

سينما
+A
حجم الخط
-A

التلفزيون أشبه بالوحش الذي عليك أن تطعمه في كل الأوقات حتى يبقى على قيد الحياة، وهذا انعكس في مبدأ الدراما التلفزيونية نفسها، وخاصة المسلسلات المكونة من 30 حلقة. حيث يعتمد إنشاء السيناريوهات بشكل أساسي على الحدث. ماذا جَرَى؟ ماذا حَصَلَ؟ وماذا سيحصل؟ بل ويعتمد مبدأ الكتابة التلفزيونية على طريقة أشبه بالمطاعم، فلا بد فيه من وجود حدث أساسي مثير يتم تقديمه (كطبق رئيسي) إلى جانب المقبلات في كل حلقة، وهكذا حتى انتهاء المسلسل. لذلك نجد هنا الكثير من الإطالة وإضاعة الوقت في أمور غير مهمة فقط لشغل الوقت لإكمال الحلقة.

 بينما تتبنى السينما الإيجاز. السيناريو السينمائي يتصارع أو يكون في تحدٍّ مع الزمن. لديك ما بين 60 إلى 120 دقيقة لإكمال الفيلم والقصة. لا شك أن القصة والأحداث مهمة أيضًا في السينما، لكنها تتم برشاقة وحيوية، بعيداً عن اللغو والإطالة. وبرغم أن توالي الأحداث ضروري أيضًا في الفيلم السينمائي، إلا أنه لا يحتل المساحة العظمى للفيلم. في السينما، بالإضافة إلى توفر متعة المشاهدة والترفيه، نجد أيضًا أجواء المعايشة وبعض التفكير والتأمل وارتقاء المشاعر مع عرض الفيلم.

بعد فورة المسلسلات السورية في العقدين الأخيرين وقدرتها على ترسيخ نفسها كنمطٍ دراميٍّ له أسلوبه وشخصياته ونجومه وحكاياته، لا يزال مخرجونا يخلطون بين المسلسل التلفزيوني والسينما. فمن وقتٍ لآخر، نرى بعضهم يحاول القفز إلى عالم السينما ويقدّم تجربة فيلم هنا وهناك. لكن، وبعد مشاهدة بعض هذه النتائج، نلاحظ سطحيةً مخجلةً في مستوى ومضمون الأفلام التي قدّموها. ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة، أهمها الجهل بفهم فن السينما والاعتقاد بأن التلفزيون والسينما هما نفس الشيء طالما كانا متشابهين ويستخدمان نفس الأدوات (الكاميرا، الممثلين، السيناريو، الحوار، إلخ ).

سينما أم تلفزيون؟

من المعروف أن أغلب هؤلاء المخرجين تعلموا "مهنة" الإخراج من خلال التدريب والممارسة. أي إنهم مثل أي مهني في الحياة يتعلم حرفته من خلال البقاء لفترة طويلة كحرفي لدى "شيخ الكار" فيكتسب خبرة. لذلك من "عباءة" الأستاذ هيثم حقي تخرّج عدد غير قليل من مخرجي الدراما، أهمهم الراحل حاتم علي، الذي عمل "مخرجا منفذا" لسنوات طويلة واستطاع بدوره أن يفرض نفسه فيما بعد كمخرج مسلسلات. ليعمل تحت قيادته مجموعة من المتدربين، أشهرهم الليث حجو والمثنى الصبح، اللذان أتقنا بدورهما "المهنة"، وأصبحا من أشهر مخرجي المسلسلات التلفزيونية. ومسيرة سيف الدين سبيعي ورشا شربتجي وآخرين سارت على نفس الطريق.

كان المخرج الأميركي أورسن ويلز قد اكتشف مبكرًا العلاقة الوثيقة ما بين الصورة والأفكار عندما أشار إلى أن: "الفيلم ليس جيدًا حقًّا إلا إذا كانت عين في رأس شاعر"

 

 

 

 

ليس القصد هنا الإساءة لأحد، بل التطرق بموضوعية قدر الإمكان إلى واقع وآليات عمل وبعض المفاهيم السائدة في الدراما السورية.

إن غياب المؤهلات العلمية أو الدراسة الأكاديمية لمجال الفن البصري والسينما يجعل سقف الإنجاز والإبداع محدوداً ويصبح خلط المفاهيم أسهل. هذا لا يعني أن خريجي مدارس السينما هم بالضرورة مخرجون جيدون، لا لقد عرف عالم السينما عدداً من عباقرة هذا الفن ولم يكونوا خريجي جامعات، ومن أشهرهم فيديريكو فليني. لكن أهم ما تقدمه الدراسة الأكاديمية هي المنهجية في التعرف والتعاطي مع أساسيات وجماليات ومضامين هذا الفن وتناول عناصره ضمن مجال فهم ثقافي. من الطبيعي واللازم حتى تكون مخرجاً سينمائياً جيداً  أن يكون لديك مخزون ثقافي ومعرفي كافٍ. فالموضوع ليس مجرد تحريك كاميرا ومعرفة كوادر الصورة وإدارة ممثل وبعض الإضاءة وإلقاء حوار.

لقد كان المخرج الأميركي أورسن ويلز (وهو واحدٌ من أهم رواد فن السينما في القرن العشرين) قد اكتشف مبكرًا العلاقة الوثيقة ما بين الصورة والأفكار عندما أشار إلى أن:

"الفيلم ليس جيدًا حقًّا إلا إذا كانت عين في رأس شاعر"

في السينما، الصورة ليست فقط مجرد أداة لإظهار الحدث والشخصيات كما في المسلسل، وإنما هي كادر فنيٌّ مشغولٌ بإتقانٍ لإظهار عناصر توازن الصورة مع إظهار العمق، ومضاءٌ بطريقةٍ تعطي دلالات درامية لتكون عنصرًا من عناصر الدراما. إن إضاءة الـ High-key. أو "الإضاءة العالية" التي تميز معظم المسلسلات التلفزيونية والدعايات، تعكس السطحية بالصورة والابتعاد عن المشاعر، بعكس إضاءة الـ Low-key.

أو  "الإضاءة الخافتة " أو المتدرجة التي تستخدمها السينما للتركيز على التفاصيل وإغناء الحكاية بمشاعر أكثر واقعية وتفاعل.

إن الجانب الشاعري في الفيلم لا يتضمن فقط جماليات الصورة وإنما يتجاوز ذلك إلى عملية المونتاج أو ما يسمى بتركيب الفيلم. عندما نقول شعر نقصد بالضرورة الإيقاع. فمثلما نقول لا شعر دون إيقاع، أيضاً نقول: لا سينما دون إيقاع، وهذا ما يغيب عادة في أعمال المخرجين السوريين.

إنَّ من أهمِّ أسرارِ نجاحِ سينما هوليوود ليس فقط بسبب مواضيع وحكايات الأكشن أو ميزانيات الإنتاج العالية والممثلين الجيدين والصناعة الحرفية، ولكن أيضًا "الإيقاع الشعري" الذي التزمته هوليوود منذ البدايات: إيقاع السرد، إيقاع المونتاج، إيقاع الصورة. وهذه الثلاثية مهمة في كل الأفلام بغض النظر عن مستوى الفيلم وقيمته الفنية.

 في السينما، لا شيء عبثي وكلُّ صورةٍ لها دلالتها ووظيفتها في السرد الدرامي للفيلم، بعكس المسلسل الذي يعتمد الإطالة وتعبئة الوقت.

في فيلم "الحبل السري" للمخرج الليث حجو، إنتاج عام 2018، يخلط المخرج كغيره من مخرجي المسلسلات السورية ما بين مفهوم الإيقاع والبطء، وهو يظن أن السرد البطيء الممل للأحداث هو ميزة من ميزات السينما. وبالرغم من أنه يتناول في الفيلم موضوعًا مؤثرًا عن ولادة امرأة في ظروف الحصار، ورغم أنه ركز على جودة التصوير، إلا أنه لم يخرج عن إطار صناعة المسلسل، فكانت النتيجة فيلمًا سطحيًا لا عمق فيه ولا تفاعل.

في مؤتمرٍ صحفيٍّ في إحدى دورات مهرجان دمشق السينمائي، سألت صحفية، وبخجل، المخرج المرحوم حاتم علي: "أستاذ حاتم، لماذا يعتبرونك ملكًا في إخراج المسلسلات لكنك أميرٌ في السينما؟" فأجابها: "في الحقيقة نحن في المسلسلات نعمل على نفس مبدأ السينما ونستخدم كاميرا واحدة في التصوير". لا ندري من زرع هذه الفكرة الخاطئة في ذهنه. فبالرغم من أن المرحوم حاتم علي درس التمثيل، لكنه تعلم مهنة الإخراج وفعلاً برز اسمه بإتقان في صناعات المسلسلات السورية، لكنه كان يعشق السينما وحاول أكثر من مرة صناعة أكثر من فيلم واستجلب أفضل المصورين الفرانكونيين لكنه لم يوفق وكان يعرف ذلك.

فمثلاً، فيلم "الليل الطويل" إنتاج عام 2009 لم يكن أكثر من فيلمٍ تلفزيونيٍّ طويل يصلح لسهرة تلفزيونية ولم يتم تقييمه كفيلم سينمائي. لقد عانى الفيلم من عدة مشكلات، أهمها تشتت في معالجة النص بطريقة سينمائية ومشكلة في المونتاج. أما المخرج باسل الخطيب، رغم دراسته السينما في روسيا، إلا أن أفلامه لم تكن أكثر من "حلقات تلفزيونية". رغم أنه يسعى لاستخدام تقنيات حديثة في التصوير ويحاول خلق أجواء سينمائية، إلا أنه ما زال يخلط بين الصورة "الحلوة" والصورة "المؤثرة"، فهو يكثر من مشاهد المطر والضباب والرومنسيات الأقرب إلى "الكيتش"، والتي يظن أنها سينما. وفيلمه "دمشق - حلب" إنتاج 2018 لم يكن أكثر من حلقة مسلسل طويلة رغم كل البهرجة التي وضعها في قصة الفيلم المؤثرة.

باختصار، يمكن القول إنه من السهل الانتقال من السينما إلى التلفزيون، لكن العكس صعبٌ جدًا.